السياسي

عودة نابليون الغلابة .

عودة نابليون الغلابة .

عودة نابليون الغلابة .

 

بعد أن عاد نابليون بونابرت من منفاه على جزيرة إلبا في عام 1815، قام بما يعرف تاريخيا بـ "الحملة المئوية"، وهي محاولة لاستعادة السلطة في فرنسا ، قاد نابليون في حملته جيشا صغيرا من أشد الناس ولاء له، وعبر فرنسا حاشدا دعما شعبيا كبيرا في طريقه خاصة بين الجنود السابقين، وصل إلى باريس في 20 مارس 1815، حيث تم استقباله بترحيب كبير.

تمكن نابليون من استعادة السلطة في فرنسا بسرعة، وأصبح مرة أخرى الحاكم بعد تنازل لويس الثامن عشر عن العرش، لم يقم نابليون بأعمال انتقامية مباشرة، بدلاً من ذلك، كانت أولويته تعزيز سلطته واستقرار فرنسا بعد فترة من التقلبات حيث قام باتخاذ عدة إجراءات لتحسين الاقتصاد وإعادة بناء الجيش وتعزيز السلطة الداخلية.

لكن سلطات أوروبا الأخرى كانت تشعر بالقلق من تعافي فرنسا واستعادة خصمها القديم الجديد نابليون بونابرت لقوته، فقامت بتشكيل تحالف ضده، أدى أخيرا لهزيمته الحاسمة والنهائية في معركة واترلو في يونيو 1815 ومن ثم نفيه إلى جزيرة سانت هيلانة في جنوب المحيط الأطلسي، حيث قضى باقي حياته حتى وفاته في 5 مايو 1821.

عودة المنهزم وانتصاره على خصومه عادة ما تكون عودة انتقامية مشبعة بالرغبة في الثأر والقصاص، وعادة ما تفتح الباب أمام حقبة دموية لا تقل سوءا عن كل ما سبقها، ورغم أن عودة نابليون لم تحمل هذا الطابع؛ إلا أنها فشلت في الاستمرار، لأن خصوم المهزوم المنتصر لن ينسوا تاريخهم معه حتى لو تظاهر هو بالنسيان.

منذ أيام قليلة أصدرت مجموعات مسلحة تنتمي لمدينة الزنتان بيانا أعلنت فيه دعمها لترشح سيف الإسلام القذافي للانتخابات الرئاسية، وأكدت أنها لن تسمح لما وصفته بـ" المحاولات المشبوهة من بعض الأطراف المحلية والدولية أن تحول بينه وبين حقه كمواطن ليبي في الترشح للانتخابات وتقدم الصفوف لخدمة بلاده" ونظرا لأن البيان جاء بعد عرض عسكري مهيب لهذه الجماعات المسلحة، فإنه لم يخل من تهديد مبطن باللجوء للقوة وتلويح بإمكانية استخدام السلاح واللجوء لدعم مفترض من قبائل (لو كان لدعمها تأثير لما كنا نخوض اليوم في هذا الحديث) وكما كان متوقعا فإن بيانات الترحيب والدعم مما يسمى المجالس الاجتماعية (القيادات الشعبية سابقا) للقبائل الداعمة للنظام السابق؛ لم تتأخر، ولازالت تصدر تباعا حتى يومنا هذا.

لن نخوض في هذا المقال في جدوى هذه البيانات أو أهميتها من عدمها، ولن نخوض في كونها عبارة وريقات غير ذات معنى لا تمثل في الواقع وعلى الأرض إلا من أصدرها من خلف شاشة جهازه، ولا أنها ستتساقط مثل ورقات الخريف مع أول حملة عسكرية انتقامية من صاحب نجمة العبور الذي يرى في سيف القذافي التهديد الأكبر لمشروعه في حكم ليبيا وتأسيس سلالة حاكمة جديدة على أنقاض سلالة القذافي. 

ولكننا سنتحدث عن العودة المحتملة لسيف الإسلام القذافي لاستعادة عرش والده، وعن أدوات هذه العودة ومآلاتها.

لقد شهدت ليبيا مراحل عديدة من الاضطراب منذ الإطاحة بنظام القذافي في عام 2011، وتنوعت القوى السياسية والقبلية والعسكرية في البلاد، وتشكلت أحلاف ثم تفككت، واجتمعت نقائض ثم تفرقت، وبزغت شخصيات ثم أفلت، ومع هذا يظل سيف الإسلام القذافي أحد أكثر الشخصيات المثيرة للجدل، فقد كان الرجل حاملا للواء الإصلاح السياسي والاجتماعي إبان حكم والده، وتعرض هو وأنصاره لعدة نكسات على يد من كانوا يعرفون سابقا بالحرس القديم (وهم عتاولة المجرمين من قيادات أمنية ومن اللجان الثورية)، وما أن قامت الثورة على نظام والده للمطالبة بالإصلاحات التي كان يظهر المطالبة بها؛ حتى نكص على عقبيه وارتدى ثوب القيادي الراديكالي المدافع عن النظام وتعرض لاتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، حوكم على أساسها في ليبيا ومازال مطلوبا حتى الآن للمثول أمام محكمة الجنايات الدولية.

وبالنظر إلى دعم بعض القبائل لوالده معمر القذافي على أسس أسرية ونفعية وسلطوية، فإن هذه القبائل التي كانت تدعمه في السابق قد تظل متمسكة بالولاء لعائلة القذافي، مما يجعل فكرة عودة سيف الإسلام تلقى ترحيبا من هذه القبائل، إلا أن هذا الدعم قد يواجه تحديات كبيرة، خاصة مع انقسام القوى والتحالفات في ليبيا الحالية، وتفكك المقاتلين السابقين من هذه القبائل وتحولهم الراديكالي لصف خليفة حفتر الذي جلبته ثورة فبراير التي استماتوا في محاربتها، وقد يجد بعضهم نفسه في مواجهة سيف القذافي الذي يقود –وللمفارقة- ثوارا سابقين من مقاتلي الثورة الذين حاربوا في 2011 ضد سيف القذافي وضد هؤلاء الموالين لحفتر اليوم والذين كانوا تحت راية القذافي وأبنائه في 2011.

ومع شبه استحالة أن يقود سيف القذافي حملة عسكرية نابليونية تنتهي به في باب العزيزية لعدم توفر آلات هذه الحملة، فإن جانبا آخر يلقي بظلاله على هذه العودة ويجعل إمكانية حدوثها كإمكانية الجمع بين الماء والنار، فسيف القذافي ليس نابليون بونابرت، وحملته على طرابلس إن تمت فإنها ستكون دموية وانتقامية، وسيخطو القذافي الابن على خطا والده الذي حكم البلاد بالحديد والنار، والذي تعرض الكثير من الليبيين في عهده للاضطهاد والتعذيب والاختفاء القسري والإعدام العلني، وستمارس القبائل الداعمة له عمليات انتقامية، وهذا ليس تخمينا أو تحليلا، بل هو ما يصرح به الموالون للنظام السابق منذ سقوطه، وهو ما سيجعل الساخطين على الظروف الحالية، والمترددين في دعم أي طرف عسكري على آخر؛ يفكرون ألف مرة قبل أن يدعموا حملة قد تنتهي بهم على أعواد المشانق.

كما أن الظهور المتكرر لسيف القذافي وداعميه قد يؤرق حاكم الرجمة ويعجل بحملة عسكرية مضادة محتملة لاجتثاث خطر سيف على مشروع حفتر، والأخير يملك القدرة العسكرية والبشرية لفعل ذلك، غير أنه لم يفعل حتى الآن تقديرا لأكبر داعميه –الروس- الذين استثمروا الكثير في مشروع حفتر، ولكن خبرتهم السياسية لن تجعلهم يضعوا كل بيوضهم في سلة واحدة –سلة حفتر- بل سيسعون لتنويع استثماراتهم في ليبيا على أكثر من شريك، ويهمهم بقاء سيف القذافي في المشهد كخطة بديلة في حال فشل شريكهم الأساسي.

وبهذا فلن يبقى لسيف القذافي إلا طريق الانتخابات، التي طالب بها بيان أنصاره العسكريون في عرضهم العسكري! ولوضع هذه الاحتمالية في إطارها الصحيح؛ فإنه من المهم أن نفهم الديناميات الدولية المحيطة بالواقع الليبي، حيث قد تؤثر علاقات ليبيا بالدول الأخرى على قدرة سيف الإسلام على العودة إلى الحكم وثباته فيه، فالقوى الإقليمية والدولية تشكل التحالفات أو تدعم أطرافًا معينة في ليبيا بناءً على مصالحها الاستراتيجية، ولا توجد أي مصلحة استراتيجية لأي من هذه الأطراف في عودة سيف القذافي باستثناء روسيا، وحتى هذه فلديها حليف استراتيجي مهم، ولا يشكل سيف الإسلام بالنسبة لها إلا خطة بديلة، كما أن قرار سماح أو منع سيف الإسلام القذافي من الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة يعتمد على عدة عوامل، بما في ذلك الظروف السياسية والأمنية والقانونية والدولية، التي قد تحول بشدة بين الرجل وبين مسعاه لاستعادة عرش والده.

بشكل عام، فإن عودة سيف الإسلام القذافي إلى الحكم في ليبيا أشبه بالمستحيل، وإن تمت فإنها لن تنجح في تحقيق الاستقرار والتنمية، فتحقيق هذه الأمور يتطلب توافقاً واسعاً وحكماً شاملاً يحترم حقوق الإنسان ويضمن الحريات الأساسية، وهي قيم غابت عن حكم والده، ولا توجد في قاموس القبائل الداعمة له.