وين يتعاركوا الأرياح يجي الكيد عالصاري
عندما تتصارع التيارات البحرية بين شمال وجنوب أو بين شرق وغرب، وتبدأ في التدافع كل يحاول أن يكون هو التيار المسيطر، عادة؛ فإن العبء الأكبر يقع لا على أحد منهم، بل على صاري السفينة التي قادها حظها العاثر لتكون في مرمى تياراتهم، والذي يجب عليه الصمود والتحمل بينما يحاول كل تيار أن يسيطر على الأجواء ويفرض نفسه سيدا للموقف.
تجد ليبيا اليوم نفسها في موقف الصاري الذي يتحمل عبء تصارع تيارات لا علاقة له بأسباب صراعها، فليبيا اليوم تتحمل عبء الصراع بين النيجر ودول الاتحاد الأوروبي، نعم؛ النيجر ودول الاتحاد الأوروبي، وقد يكون ذكر النيجر مجردا هو تبسيط للوقائع، فالتيار القوي الذي يحاول رد تيار الاتحاد الأوروبي القادم من الغرب؛ في الحقيقة هو التيار الروسي القادم من الشرق.
تتلخص القصة في قيام نظام الحكم الجديد في النيجر بإلغاء قانون يجرّم تهريب المهاجرين في البلاد، ويأتي هذا الإجراء ردا على الاتحاد الأوروبي الذي رفض الاعتراف بالنظام العسكري الجديد في النيجر والذي قاد انقلابا مسلحا على الرئيس محمد بازوم في 26 يوليو 2023م، ومن أهم أسباب الانقلاب هي الشعور المتنامي في دول غرب أفريقيا بأنها ما زالت رهينة للاستعمار الفرنسي رغم استقلالها الظاهر منذ عشرات السنين، ولكن الأسباب الخفية التي تعرف ولا تذكر عادة هي تنامي الوجود الروسي في المنطقة ممثلا في مجموعات فاجنر التي دعمت انقلابات مشابهة خلال الفترة الماضية في غينيا وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو ثم مالي وأخيرا في النيجر، والقاسم المشترك بين كل هذه الانقلابات هو خسارة فرنسا لنفوذها واكتساب روسيا لنفوذ متزايد عبر مجموعة فاجنر.
في 27 نوفمبر الماضي ألغى المجلس العسكري الحاكم في النيجر قانون تجريم تهريب المهاجرين في البلاد، وصادق رئيس المجلس العسكري، الجنرال عبد الرحمن تياني، على مرسوم القانون الجديد، الذي يلغي قانونا اعتمدته النيجر في عهد رئيسها الأسبق محمدو يوسفو في عام 2015، يحظر تهريب المهاجرين وإدخالهم إلى النيجر على نحو غير شرعي من أجل الحصول على مكاسب مالية وغيرها.
قبل تمرير القانون اعتاد المهاجرون ومعظمهم من دول غرب أفريقيا، الدخول إلى النيجر عبر الحدود الجنوبية بدون أي مشكلات عبر عصابات التهريب التي لا تتعرض لها الأجهزة الأمنية والعسكرية في البلاد، ليعبروا بهم وصولا إلى مدينة أغاديز وسط البلاد، ثم الانتقال منها إلى الجزائر وليبيا ومن ثم أوروبا.
وكانت أغاديز في ذلك الوقت عبارة عن واحة في وسط الصحراء بالنسبة للمهاجرين غير القانونيين، وتمثل محطة مركزية تنطلق منها قوافل المهاجرين على مرأى ومسمع الجيش النيجري، يصل إليها المهاجرون من كل حدب وصوب ليتجمعوا في قوافل تعبر بهم الصحراء في اتجاه دول الشمال – ليبيا والجزائر-،وبفقدانهم هذا الممر الآمن نوعا ما؛ اضطر الكثير من المهاجرين إلى اتخاذ طرق أخرى أكثر سرية وخطورة من أجل العبور.
بالنسبة لليبيا، فإنها كانت وما زالت تعاني من تدفقات الهجرة غير القانونية حتى مع عدم وجود طريق آمن بالنسبة للمهاجرين، كيف الآن وقد ألغي قانون تجريم تهريب المهاجرين، وستعود عصابات التهريب للعمل بكل قوة لتعوض ما فقدته خلال السنوات الثمانية الماضية، وسيحمي جيش النيجر قوافل المهاجرين المتجهة إلى ليبيا؛ نكاية في الاتحاد الأوروبي.
وكأن هذا لا يكفي بذاته؛ فقد بدأت الجزائر في صيف 2023 بطرد آلاف المهاجرين إلى حدودها مع النيجر، واضطرت المنظمة الدولية للهجرة لإقامة معسكر لإيواء هؤلاء المهاجرين المطرودين في منطقة تسمى أسامكا داخر الأراضي النيجرية، إلغاء القانون سيعيد أمل الوصول إلى الفردوس الأرضي في أوروبا لهؤلاء وغيرهم، وستتلقفهم قوافل أغاديز التي ترى في الإجراء الأخير فرصة لها للازدهار من جديد، وستبدأ في توجيههم إلى حيث لا يطردون؛ إلى ليبيا.
سيزيد الإجراء الذي اتخذته النيجر الضغط على ليبيا التي لا يفترض أن تكون لها علاقة بالمناكفات بين الاتحاد الأوروبي من جهة وبين النيجر وكفيلتها روسيا عبر وكيلتها مجموعة فاجنر من جهة أخرى، ولكن "وين يتعاركوا الأرياح يجي الكيد عالصاري"، تتصارع رياح موسكو الشرقية مع رياح أوروبا الغربية للسيطرة على أجواء أفريقيا، فتبدأ هذه بدعم خصوم تلك لإضعافها وهكذا، ومؤخرا اكتشفت موسكو خاصرة رخوة لأوروبا تتمثل في جنوب إيطاليا وذلك بتوجيه قوافل الموت إليها، آلاف المهاجرين على قوارب ضعيفة إن وصلوا أوهنوا دول أوروبا وإن ماتوا في الطريق أظهروها بمظهر المتنكب لحقوق الإنسان والرافض لمساعدة ضعفاء تقطعت بهم السبل.
في الصيف الماضي نشرت صحيفة لا ريبوبليكا" الإيطالية تقريرا تحدثت فيه عن دور محتمل لمجموعات شركة فاغنر في زيادة تدفقات المهاجرين المنطلقين من ليبيا، خاصة من سواحلها الشرقية التي تنتشر فيه مرتزقة شركة فاغنر الروسية والتي لم تكن في السابق نقطة انطلاق نحو إيطاليا بسبب البعد الجغرافي.
ورأى التقرير الذي تبنته لجنة برلمانية إيطالية أن سبب ازدياد المهاجرين القادمين من مناطق شرق ليبيا نحو سواحل إيطاليا له علاقة بسعي روسيا للتأثير في الانتخابات الإيطالية.
قد لا تكون لنا –في ليبيا- علاقة مباشرة بأسباب الصراع التي أدت إلى إلغاء قانون النيجر، أو أسباب تبنيه أصلا عام 2015، ولكن لماذا نقبل على أنفسنا أن نكون كومبارس في هذه المسرحية ونلعب دور الصاري الذي تتقاذفه الرياح يمنة ويسرة دون أن يكون له أي دور؟ ألا يكفي بلادنا ما تعانيه أصلا حتى تكون معبرا لآلاف الحالمين بالوصول إلى أوروبا ليعبروا من خلالها بعد تمضية سنوات للعمل فيها لدفع تكاليف الإبحار لتجار الموت الذين هم من أبناء هذه البلاد؟ ألم يحن الوقت بعد لقيام دولة قوية قادرة على حماية حدودها من جهة، وقادرة على السيطرة على جموح فئة قليلة من أبنائها لا تردعها قيم ولا أخلاق فترسل الآلاف من البشر إلى مصير مجهول؟ ثم ألم يحن الوقت بعد لتطبيق ما ادعت الحكومات المتعاقبة إقراره من قوانين لتشغيل المهاجرين حتى تستفيد البلاد على الأقل من آلاف من الأيدي العاملة التي تعبر سوق العمل في ليبيا مستفيدة من كل مزايا الدعم التي يستفيد منها المواطن الليبي دون دفع أي ضريبة، ثم تركب قوافل الموت بعد أن تجمع ما يروي غليل المهربين؟
لا شك أن الإجراء الذي اتخذته النيجر سيكون له تداعيات مباشرة على ليبيا، ولا شك أن ليبيا –التي لا تسيطر على حدودها ولا تحكم في أبنائها- ستكون ممرا للغالبية العظمى من القوافل التي سترسلها أجاديز، ولا شك أن ليبيا ليست مقصودة من إجراء النيجر بل هي أحد ملاعب الصراع بين قوى الشرق والغرب، ولا شك أيضا أن من يستمرئ لعب دور المفعول به في معادلات الصراع لن يتوقف الفاعلون عن الفعل به، والسؤال إلى متى سنظل نلعب دور المفعول به؟ وإلى متى تبقى بلادنا ملعبا خلفيا لتصفية حسابات لا ناقة لنا فيها ولا بعير