السياسي

تقرير ديوان المحاسبة (المال السايب يعلم الخنبة)

تقرير ديوان المحاسبة  (المال السايب يعلم الخنبة)

تقرير ديوان المحاسبة

(المال السايب يعلم الخنبة)

 

نشر ديوان المحاسبة يوم 20 سبتمبر من العام 2022م تقريره السنوي لعام 2021م متضمنا مخالفات مالية في مختلف أجهزة الدولة التنفيذية والتشريعية يرتقي الكثير منها إلى درجة الفساد، بل إن بعضها مجرّم في دول أخرى تنتهج منهج الشفافية المالية وتحكمها قوانين صارمة، أما في ليبيا فلا يعدو التقرير وما تضمنه من تجاوزات ومخالفات أن تكون مادة إعلامية دسمة تتناقلها وسائل الإعلام لأيام وربما لأسابيع وكل ينتقي منه ما يسيء لخصومه، أو يكون التقرير محورا لأحاديث العامة في حفلاتهم ومآتمهم وسهراتهم وطوابيرهم المختلفة، ثم ما يلبث أن يطوى كما طويت التقارير السابقة قبله ويستمر الفاسدون في ممارسة الفساد الممنهج والمقنن، ليس لأن اليد التي تنفذ القانون لا تطالهم، بل إن القانون نفسه يقصر عن إدراكهم، لا لقوتهم أو تنفذهم، بل لأن ما يفعلونه من فساد وإجرام في حق المال العام لا يجرمه القانون.

تقرير ديوان المحاسبة يذكرني عند صدوره في كل عام بالمثل الشعبي الذي يقول (المال السايب يعلم الخنبة)؛ وهو كذلك، فعند وفرة المال والقدرة على تناوله في غياب الرقابة القانونية أو التشريعات التي تحميه؛ يصبح من العبث أن تطلب من المسؤول أن يكون عفيفا أمينا، بل المتوقع منه أن يكون فاسدا، كيف والقانون لا يكتفي بعدم حراسة المال العام، بل ويشجع السراق على نهبه جهارا نهارا بالوثائق والمستندات دون تثريب عليهم.

تتقاضى الوزارات ومؤسسات الدولة كل عام قيما مالية تسمى الميزانية التسييرية أو المصروفات العامة، وللجهة وحدها تحديد هذه المصروفات، ولإدارتها سلطة تقديرية واسعة في صرفها دون حسيب أو رقيب، وهذا باب واسع للفساد بإمكان المسؤول الليبي أن يصبح ثريا من خلاله –وهو يفعل- دون أن تطاله يد القانون لأن ما يفعله ليس مخالفا للقانون، فالهواتف الراقية والساعات الثمينة والسيارات الفارهة والأثاث الفخم هي مصروفات تسييرية للإدارة أو الوزارة الحق في تحديدها والصرف عليها ولها وحدها الرقابة على هذا الصرف، فلو فرضنا أن الوزارة اشترت مجموعة من الهواتف مثلا ليهيدها الوزير إلى ضيوفه؛ وثمنت هذه الهواتف بأسعار مبالغ فيها، ثم وثقت عملية الشراء بتصديق الإيصالات من الهيئة العامة للضرائب، فإن ما يفعله الوزير ووزارته الذي يخالف أبسط أبجديات المنطق والحس السليم والقيم والأخلاق والمعارف الإنسانية؛ لا يمكن أن يعاقب عليه لأنه ببساطة لا يخالف القانون، بل هو تحت طائلة القانون، ولن يتجاوز ذكره بضعة أسطر في تقرير ديوان المحاسبة ثم يطوى ذكره ويعود الوزير ووزارته ليجهزوا لميزانية السنة القادمة وتحديد بنود إنفاقها بتحديد أنواع الهواتف والسيارات والملابس والأثاث الذي سيقتنونه بل وحتى المطاعم التي ستزودهم بوجباتهم.

عزيزي القارئ؛ أتمنى عليك ألا تطيل التفكير في تقرير ديوان المحاسبة لأن النظر وإعادة النظر في ما ورد فيه من تجاوزات ومخالفات، والحديث عنها في المناسبات والطوابير، وقراءة التحليلات في الصحف ومتابعتها في القنوات لن يؤدي إلا إلى تدهور صحتك النفسية وانهيار روحك المعنوية بمعرفتك كيف يصرف المؤتمن أموالك وأموال أولادك على شهواته وملذاته مع حرمانك منها وافتقارك إليها، وبدلا عن الانشغال بالتقرير وما فيه الأفضل أن ترفع صوتك وتخرج للشارع لتتظاهر مطالبا بالتغيير الذي يبدأ أولا بالاستفتاء على الدستور الذي صادره من قرأت عن تجاوزاتهم في تقرير ديوان المحاسبة وسرقوه وسرقوا معه حقك في قبوله أو رفضه، كما سرقوا حقك في الانتخابات وإسقاطهم والإتيان بغيرهم لتكلفهم بصياغة قوانين تحميك وتحمي الأجيال القادمة.

أما إذا كسلت عن المطالبة بحقك فالأفضل أن تشغل نفسك بكرة القدم أو الفن والأفلام أو غيرها من الهويات وتترك الوزراء والنواب والمسؤولين وشأنهم فإن حديثك عنهم لن يضرهم طالما القانون يحميهم.

إن تقرير ديوان المحاسبة من وجهة نظري لا يعدو أن يكون رفاهية لا نحتاج إليها في بلادنا، فهو أقرب لأن يكون رسالة للعالم الخارجي أن مؤسسات الدولة الرقابية تعمل وتفضح المؤسسات التنفيذية وتكشف تجاوزاتها، بينما في الواقع هما وجهان لنفس العملة، وإلا فما نفع التقرير العاشر إذا كان نسخة مكررة من التقرير الأول والثاني وكل التقارير التي السابقة واللاحقة؟ وأين اختفى معنى كلمة المحاسبة من اسم الديوان مصدر التقارير؟

إذا كان للتقارير من قيمة أكثر من رفع نسب السكر وضغط الدم لدى الليبيين لكانت ظهرت منذ التقارير الأولى ولكنا استفدنا منها ولربما حتى تجاوزناها ولم نعد بحاجة إليها، ولكن هي في الحقيقة عبارة عن وسيلة يشرعن بها الديوان وجوده ويبرر المرتبات الكبيرة نسبيا التي يتقاضاها كادر موظفيه المتضخم دون أن تؤدي النتيجة المرغوبة منها وهي محاربة الفساد ومنعه، بدلا عن ذلك أصبح طقسا سنويا يكتشف من خلاله الليبيون كل عام من من الوزراء اشترى هواتف أكثر وسيارات أفخم وأثاث أغلى، ويكتشفون من خلالها أي المسؤولين سافر أكثر وأنفق على سفراته ورحلاته وطائرته مبالغ أكبر، بل وحتى أي مسؤول قدم أكبر خدمات لعائلته ومعارفه وأصدقائه، نعرف من خلالها كيف يتفنن أبناء البلاد من المسؤولين في سرقتها ونهبها مستندين على قوانين تحميهم وتحمي غنائمهم المليونية.

المال السايب يعلم الخنبة، وأموالنا سائبة وقوانيننا فضفاضة تسمح بالسرقة، وشعبنا الطيب بدل أن يطالب بحقوقه يكتفي بالتضرع إلى الله أن يرزق البلاد بـ(ولد حلال) يصلحها، والحقيقة أن (ولد الحلال) إن وجد فإنه سيتحول إلى (حرايمي) كبير ما أن يدرك أن أكوام المال المكدسة أمامه بلا حراسة وأنه يستطيع أن يغنم منها ما يشاء دون مغرم يصيبه.

بدل التضرع إلى الله أن يرزقنا بـ(ولد حلال) كأننا فتاة مقبلة على الزواج؛ الأولى أن نسعى لإصلاح الحال بتغييره، وتغييره يبدأ بإزاحة الوجوه التي تتصدر المشهد من سنوات وترفض التغيير، وإزاحة الوجوه الكريهة تبدأ بانتخابات قائمة على أساس دستوري يمنح المنتخبين أهلية تغيير القوانين البدائية وإلغائها وإصدار قوانين تحمي المال العام وتؤمن مستقبل أجيالنا القادمة قبل أن يسرقه اللصوص المحميون بقانون الغابة، أما إذا اكتفينا بقراءة التقارير وتحليلاتها وتفسيراتها والحديث عنها والتسامر بها؛ فإن شيئا لن يحدث وسيستمر الوضع على ما هو عليه، فصاحب المال الحقيقي –وهو الشعب- غير مهتم بحمايته، والمسؤول المؤتمن أمن العقوبة فأساء العمل، وسيكون علينا بعد أيام وربما أسابيع أن نطوي صفحة تقرير ديوان المحاسبة لسنة 2021م ونعود لممارسة دفن رؤوسنا في الرمال التي تتحرك من تحتنا حتى يفاجئنا الديوان بتقرير سنة 2022م ، ننشغل به بعض الوقت وننساه وننتظر الذي يليه ثم الذي يليه ثم الذي يليه حتى يأتي عام لا يصدر الديوان فيه تقريرا، فما من مخالفات ولا تجاوزات في حق المال العام لأنه لم يعد موجودا أصلا، أتى عليه اللصوص وأتوا على ما تبقى من البلاد وتركونا نبكي كالنساء بلدا لم ندافع عنها كالرجال.