علاش لا يرحل شاغلو المناصب السيادية الحقيقية
في يوم 21 أكتوبر من هذا العام؛ 2022م وفي مؤتمر صحفي من العاصمة المغربية الرباط؛ ظهر علينا وجهان مألوفان لما قد يبدو في عقولنا الباطنة أنه عقود من الزمن، إنهما رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، ظهر الرجلان بسرائر منشرحة وهما يبشران الشعب الليبي بقرب انتهاء الأزمة! نعم، الأزمة؛ هذه الكلمة التي لخصت معاناة الليبيين خلال السنوات الماضية وما مروا به من انقسام سياسي وتشريعي وحتى قضائي ومن تغول للمليشيات والعصابات المسلحة ومن سيطرة لشرعية السلاح ومن شح السيولة وانقطاعات الماء والكهرباء وشح الوقود وتهريبه والتضخم وارتفاع الأسعار وغيرها، كلها ستصبح قريبا من الماضي فقد اتفق رجلا ليبيا اللذان عجزت أن تنجب مثلهما على تقاسم المناصب السيادية!!!!
اتفق عقيلة صالح وخالد المشري في اجتماع الرباط المغربية في 21 أكتوبر 2022 على تفعيل اتفاق بو زنيقة المغربية في يناير 2021 على توزيع ما سموه المناصب السيادية على الأقاليم قبل حلول ديسمبر القادم، كما اتفقوا على ما وصفوه بتوحيد السلطة التنفيذية قبل دخول 2023م.
للوهلة الأولى قد يبدو الأمر مبشرا بخير، فمنطقيا كل اتفاق بين الخصوم هو بادرة خير وخطوة نحو رأب الصدع ولم الشمل وما إلى ذلك من المصطلحات العاطفية الرنانة، ولكن بإعادة النظر في الأمر ستبرز تساؤلات يصعب معها النظر إلى اجتماع 21 أكتوبر بحسنة نية.
ومن هذا التساؤلات على سبيل الذكر لا الحصر قطعا؛ ما هي القيمة التي أضافها اتفاق الرباط على اتفاق بو زنيقة؟ سبق واتفق المجلسان في بو زنيقة المغربية أيضا على تقاسم ما يسمونه دائما المناصب السيادية، ولكن اتفاقهم لم يسفر إلا عن اختيار نائب عام ورئيس للمجلس الأعلى للقضاء، وهو ما لا يعد إنجازا لجماعة بو زنيقة كون آلية اختيار شاغلي هذه المناصب موجودة وبعيدة عن تجاذبات المجلسين ولم يحققا فيها شيئا يذكر باستثناء إدخالهما لجهاز القضاء في أتون صراعاتهم الجهوية.
استمر شاغلو المناصب المقصودة بالاتفاق في مناصبهم منذ يناير 2021 بدون تغيير رغم المحاولات المستميتة لمجلس النواب لإجراء تغييرات فردية على هذه المناصب قبل هذا التاريخ وبعده دون جدوى، ما الذي منع من تنفيذ اتفاق بو زنيقة؟ هل هذه الموانع زالت الآن لينجح اتفاق الرباط أم أنها ما زالت موجودة فنحتاج بعد عام مثلا لاتفاق آخر وليكن مثلا اتفاق مراكش أو طنجة أو غيرها لتفعيل اتفاق الرباط؟ ما هي الضمانات لنجاح الاتفاق وما هي الضمانات لتنفيذه؟ فمن الممكن بل ومن المرجح أن لا يتعدى هذا الاتفاق كونه مناورة سياسية من رجلين حنكتهما السنوات الماضية في إتقان مثل هذه المناورات لإطالة زمن وجودهما في السلطة.
من المثير للريبة والاستغراب أيضا إصرار مجلسي النواب والأعلى للدولة على تسمية المناصب التي اتفقوا على تغيير شاغليها بالمناصب السيادية!! بل والأغرب منذ ذلك هو تقبل الناس لهذه الفكرة دون إنكار وكأنها ترسخت في أذهانهم من كثرة ترددها على أسماعهم فباتت حقيقة نحتاج إلى مجاهدة لتغييرها والواقع غير ذلك، فالمناصب التي يسعى المشري وعقيلة إلى تغييرها أو فلنقل إلى تقاسمها ليست مناصب سيادية ولا علاقة لها بأعمال السيادة سواء من ناحية القانون أو من ناحية السياسة.
فمن الناحية القانونية يختص القضاء بنظر كل المنازعات التي يمكن أن تنشأ في المجتمع، أيا كان سببها وأطرافها وموضوعها، باستثناء بعض القضايا التي تكون بمعـزل عن رقابة القضاء، وهي ما يعبر عنها بأعمال السيادة أو أعمال الحكومة ومثال ذلك تنظيم العلاقة بين السلطات وإدارة الديبلوماسية الخارجية وتحديد الروابط السياسية بين الأفراد والدولة وإعلان الحرب والسلم وتحديد ميزانية الدولة ومصادر تمويلها وموارد إنفاقها وغيرها.
ومن المعلوم بداهة أن مؤسسات مثل هيئة الرقابة الإدارية وديوان المحاسبة وهيئة مكافحة الفساد والمؤسسة الوطنية للنفط هي جهات خاضعة لرقابة القضاء في أعمالها وتصرفاتها وهي بذلك خارجة إطار السيادة قانونا.
أما من الناحية السياسية فالمعروف أيضا أن الوزارات في أي حكومة تنقسم إلى سيادية وخدمية، فالوزارات السيادية هي التي تقود من خلالها الحكومة الدولة وتحقق سياستها، ولا تقدم خدمات مادية ملموسة للمواطنين، وعلى رأس هذه الوزارات تأتي وزارة الدفاع والخارجية والداخلية والعدل والمالية والتخطيط، وهي وزارات تابعة للحكومة لا هيئات ومؤسسات مستقلة عن الحكومة تمارس الرقابة عليها.
وعلى الرغم من أن مناصب مثل رئيس ديوان المحاسبة ورئيس هيئة الرقابة الإدارية ورئيس هيئة مكافحة الفساد هي مناصب إدارية قطعا وليست سيادية إطلاقا، ولكن كونها واقعة تحت السلطة التشريعية وتعتبر من أدواتها في الرقابة على أعمال الحكومة فيمكن تفهم رغبة المجلسين وخاصة مجلس النواب في تغييرها، ولكن ما يستعصي على الفهم هو اعتبارهم لمنصب رئيس المفوضية العليا للانتخابات منصبا سياديا رغم أنها مؤسسة مستقلة غير خاضعة لإشراف الحكومة ولا إدارة مجلس النواب!!!
كما يلفت الانتباه أيضا استماتة مجلس النواب على تغيير محافظ مصرف ليبيا المركزي، وتمسكه الشديد بضرورة ذلك، ومحاولاته البائسة واليائسة على مدار السنوات لتغييره وكلها باءت بالفشل، أولاها عندما عينوا علي الحبري وهو نائب المحافظ الحالي الصديق الكبير؛ عندما عينوه محافظا سنة 2014 ولكن ذلك لم يترك أي أثر يذكر لا محليا ولا دوليا باستثناء طباعة الحبري لعملة ليبية في روسيا لم تساهم إلا في تفاقم الأزمة المالية في البلاد، وفي الواقع ظل الكبير متربعا على عرشه الذي تولاه سنة 2011 بتعيين من المجلس الوطني الانتقالي آنذاك، وبعد فشل محاولة تنصيب الحبري عاد مجلس النواب في قفزة هوائية جديدة وهذه المرة بشخصية من المنطقة الغربية لدغدغة مشاعر الشارع الطرابلسي –الأقل اهتماما حقيقة بهذه الجزئيات- وعينوا محمد الشكري في منصب محافظ مصرف ليبيا المركزي في سنة 2017، وهو القرار الذي لم تتعد قيمته قيمة الحبر الذي طبع به، واستمر الكبير على عرشه دون منازع، لم يسقطه اتفاق بو زنيقة فهل يسقطه اتفاق الرباط؟
كما يلفت الانتباه أيضا في اتفاقات المجلسين المتكررة على تغيير شاغلي المناصب السيادية أن منصب قائد الجيش لم يذكر إطلاقا، فلماذا؟ أليس منصبا سياديا؟
بمقياس المناصب السيادية هو منصب سيادي بلا شك، خاصة في دولة مثل ليبيا يحظى فيها شاغل هذه المنصب المكلف من مجلس النواب بصفة غير موجودة أصلا في القانون العسكري الليبي وهي (القائد العام للجيش) بصلاحيات غير محدودة، تصل إلى إعلان الحرب والسلم دون حتى الرجوع إلى رئيسه المباشر (وزير الدفاع)، وتصل أيضا إلى إبرام الاتفاقيات مع الدول والمشاركة في الحوارات السياسية واستقبال الوفود والمطالبة بميزانية مستقلة غير خاضعة للرقابة.
يستميت عقيلة صالح في المطالبة بتغيير الصديق الكبير وهو يرى أنه الرافد الأساسي لتقوية خصومه السياسيين والعسكريين ماديا، فهو يجلس على كرسيه أمام خزانة ليبيا بأسرها ويعطي ويمنع كما يشاء، فمطالبة عقيلة بتغييره بشخص يستطيع التحكم فيه هي مطالبة منطقية من ناحية براغماتية مصلحية؛ لكن في المقابل لماذا لا يطالب المشري ومن نفس المبدأ بتغيير خليفة حفتر بمبدأ هذه بتلك، نسلم لكم منصب المحافظ وتسلمون لنا منصب قيادة الجيش.
مطالبة المشري ستكون أكثر منطقية من مطالبة عقيلة، كون الأخير هو من عين خليفة حفتر وابتدع له منصب القائد العام وبالتالي بإمكانه تغييره، بعكس المشري الذي لم يعين الكبير بل وجده أمامه.
تساؤل آخر لا يمكن تغافله في التعليق على اتفاق الرباط التاريخي؛ أليس منصب رئيس مجلس النواب منصبا سياديا وكذلك الحال لمنصب رئيس المجلس الأعلى للدولة؟ لماذا لا يتغير شاغلو هذه المناصب؟ خاصة وهي المناصب اللصيقة بشأن الدولة وسياستها وهي المسؤولة وفقا للاتفاق السياسي عن صياغة قانون الانتخابات وقانون الاستفتاء على مشروع الدستور التي هي أهم المطالب الشعبية في هذه المرحلة، فمن غير المنطقي أن يفشل مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة في قيادة البلاد إلى مرحلة الدستور الدائمة وإلى صياغة قانون للانتخابات يغير الوجوه الجاثمة على السلطة من نحو عقد من الزمان؛ فيقررا مكافأة نفسيهما بتقاسم بعض المناصب التي اصطلحوا على تسميتها بالسيادية تمهيدا لإنشاء حكومة ثالثة ستبعد عنهم شبح الانتخابات وتضمن بقاءهم في السلطة إلى ما شاء الله.
إجمالا لكل ما ذكر، قد يكون رئيس ديوان المحاسبة مقصرا في عمله وتنازعته التجاذبات السياسية، وقد تكون هيئة مكافحة الفساد غارقة في الفساد بذاتها، وقد تحتاج هيئة الرقابة الإدارية إلى رقابة، فكل مؤسساتنا الرقابية فاشلة وإلا لما كنا من أسوأ دول العامل في قائمة الفساد، وقد يكون محافظ مصرف ليبيا المركزي فاسدا وفاشلا، فقد فشل لسنوات في حل أزمة السيولة وهو يرفض الآن تغيير سعر صرف الدينار الليبي الذي قد يرفع ولو جزءا بسيطا من المعاناة عن كاهل المواطن، كما أن علاقاته ببارونات الحرب الفاسدين أشهر من أن تذكر أو تنكر؛ إلا أن اختزال الأزمة في هؤلاء هو تسطيح لها واستغفال للشعب، لم يقم أي من هؤلاء بإخفاء الدستور وسرقة حق الناس في الاستفتاء عليه، لم يقم أي من هؤلاء بصياغة قانون انتخابات صمم خصيصا ليموت قبل أن يولد، ليستمروا في مناصبهم وامتيازاتهم التي ستحرمهم منها الانتخابات حال انعقادها.
يسمي أعضاء مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة شاغلي المناصب المذكورة سابقا –زورا وبهتانا- بالمناصب السيادية لإقناعنا بضرورة تغييرهم، ودعونا نتفق معهم ونرفع عقيرتنا بالصياح مطالبين بتغيير شاغلي المناصب السيادية، ليذهب رؤساء كل الهيئات إلى الجحيم وليلحقهم شاغلو المناصب السيادية الحقيقية، ليرحل رئيس مجلس النواب ورئيس المجلس الأعلى للدولة ورئيس الحكومة القابع في طرابلس ونظيره القابع في بنغازي وليرحل قائد الجيش، ليرحل هؤلاء أولا، ثم ننظر بعدها في رحيل غيرهم.