من سرق الدستور؟و أين ذهب يوم الإستفتاء؟
تعيش معظم المجتمعات المتحضرة حاليا في ظل عقود اجتماعية تحكم هذه المجتمعات وتحدد العلاقات فيها بين الحكام والمحكومين، واصطلح على تسمية هذه العقود بالدساتير، فالدستور هو عقد اجتماعي يصوغه المجتمع بالتوافق بين مكوناته ليكون عبارة عن قانون أعلى في الدولة يحدد شكلها ونظام الحكم فيها، ويحدد اختصاصات السلطات في الدولة والعلاقات بينها وحدودها ومددها وصلاحياتها، ويفصل بينها في حال التعارض، كما يحدد حقوق الأفراد والجماعات ومسؤولياتهم وحرياتهم ويحدد العلاقات بينهم وبين الجهات الحاكمة.
ولأن ثقافة الدستور كانت غائبة عن ليبيا لعقود في ظل نظام حكم الفرد، لم يكن لجدلية غياب الدستور أهمية شعبية، بل ظل الجدال فيها نخبويا بحثا لم يشارك فيه إلا السياسيون والطبقة الحاكمة.
وبما أن الدستور لم يكن له أي أثر سابقا في حياة معظم أبناء الشعب، ولم يجربوا الحياة في وجوده، ولم يختبروا مزاياه وعيوبه، فإن سرقته وإخفاءه واغتيال حق الناس في التصويت عليه لن يكون أمرا صعبا لمن أراد ذلك، فكما أن المعروف لا يعرف؛ فإن المجهول لا يُجهّل! وما لم يوجدا أصلا في أذهان الناس لا يمكن إقناع الناس بأن أحدهم قد سرقه.
ولكن دستورنا موجود، أو على الأقل مسودته، هي موجودة يقينا، وقد صاغتها لجنة انتخبها الناس في عام 2014، لتقدم لنا بعد ثلاث سنوات من المداولات والأخذ والرد والانسحابات والاستقالات والمقاطعات؛ مسودة دستور أقرها أكثر من ثلثي أعضاء اللجنة لتقدم لمجلس النواب لصياغة قانون للاستفتاء عليها، وهو ما حدث، أي أن القانون قد صيغ، ولكن الاستفتاء لم يحدث، فمن سرق مسودة الدستور وأخفاها واغتال حقنا في التصويت عليها وقبولها أو رفضها؟
في عالم التحقيقات الجنائية وعند حدوث جريمة أول ما يفعله المحقق لمعرفة الجاني هو البحث عن المستفيد، ولأننا نتحدث عن جريمة سرقة لحلم شعب في الاستقرار والتنمية؛ فإن أول ما يجدر بنا البحث عنه هو المستفيد، فمن المستفيد من غياب الدستور؟
عندما قدم أعضاء الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور مشروعهم إلى مجلس النواب عام 2017 صاغ الأخير قانونا مشوها ظالما وكأنه صاغه ليرفض؛ إما أن يرفض المشروع أو يرفض الدستور، فقد نص قانون الاستفتاء الذي صاغه مجلس النواب على تقسيم البلاد إلى ثلاثة أقاليم وهي مخالفة صارخة لنص مسودة الدستور نفسها التي تعتبر البلاد إقليما واحدا يسمى الجمهورية الليبية، ولم يقف الأمر عند ذلك بل واشترط القانون حصول الدستور على أغلبية 50 بالمئة +1 في كل إقليم من الأقاليم الثلاثة (طرابلس وبرقة وفزان) على حدا، وإلا فلن يتم اعتماده، ومع شبه استحالة حصول المسودة على هذه النسب خاصة في أقاليم بعينها؛ يبقى الظلم الصارخ في هذا القانون لسكان إقليم طرابلس مثلا حيث يجعل صوت الخمسة منهم مساويا لصوت واحد في فزان وأقل من ثلاثة أصوات في برقة .
هذا القانون رفضه المجلس الأعلى للدولة –الشريك السياسي لمجلس النواب حسب الاتفاق السياسي الموقع في المغرب سنة 2015-؛ ومع رفض المجلس الأعلى للدولة للقانون وإصرار مجلس النواب عليه؛ ظل مشروع الدستور حبيس أدراج المفوضية الوطنية العليا للانتخاباتالتي أدخلها رئيسها كطرف ثالث في الصراع عندما اتخذ جانب الرافضين للاستفتاء على الدستور والمطالبين بتعديل المسودة، بل وذهب أبعد من ذلك حين دعا إلى الاستفتاء على قاعدة دستورية يعتمدها المجلسان تقام الانتخابات على أساسها، مؤكدا جاهزية المفوضية لإجراء استفتاء على القاعدة الدستورية خلال سبعين يوما من استلامها، والسؤال هنا إذا كانت المفوضية قادرة على تنظيم استفتاء خلال سبعين يوما؛ لماذا لا يكون هذا لاستفتاء على مشروع الدستور حتى ولو كان ذلك بقانون الاستفتاء المعيب الذي صاغه مجلس النواب؟
لنعود لقاعدة البحث عن المستفيد؛ أليس مجلس النواب مستفيدا من غياب الدستور ليطول بقاؤه في المشهد وليستمر في التمديد لنفسه إلى ما لا نهاية؟ أليس المجلس الأعلى للدولة بالضرورة مستفيدا من غياب الدستور كذلك فما يطال مجلس النواب يطاله وكلاهما يستمد شرعية بقائه من اتفاق الصخيرات وإن كان يذر في أعيننا رماد انتخابنا له منذ سنوات؟ ألا يمكن أن يكون خلافهم الظاهري على قانون الاستفتاء هو واجهة لاتفاقهم الباطني على إخفاء مشروع الدستور لأنه لن يخرج أي منهما منتصرا في حال إقراره، فكلاهما يعرف أنه والوجوه المتصدرة له قد استنفذا رصيد الشرعية والتأييد الشعبي منذ زمن ولم يبق لهم ما يستر عوراتهم إلا اتفاق الصخيرات فلماذا يستبدلونه بمشروع ستكون أولى ثمراته إقصاؤهم؟
كنا قد تحدثنا عن طرف ثالث في معادلة إقصاء الدستور هو مفوضية الانتخابات أو رئيسها عماد السايح، ماذا تستفيد المفوضية أو ماذا يستفيد عماد من إخفاء الدستور؟ لا تبدو الإجابة عن هذا السؤال بسيطة فلا مصلحة ظاهرة لأي منهما في ذلك، إذا لماذا تظهر المفوضية بمظهر الرافض لإجراء الاستفتاء رغم استلامها لمسودة الدستور ولقانون الاستفتاء المعيب منذ سنة 2017؟ وهنا لا يمكن لأحد أن يحتج بالتوافق بين مجلس النواب والأعلى للدولة؛ فغياب التوافق بين المجلسين حول قانون الانتخابات لم يمنع المفوضية من قبوله والعمل على أساسه حتى قبل أيام قليلة من موعد الانتخابات رغم رفض المجلس الأعلى للدولة لهذا القانون منذ صدوره وتصريحه أنه لم يشارك في صياغته ولم يستشر في إقراره، فالمبادئ لا تتجزأ، ولا يجوز للمفوضية أن تحتج بغياب التوافق في قانون الاستفتاء، وقد عملت على قانون الانتخابات الذي صدر من جانب واحد وبدون توافق.
فماذا تستفيد المفوضية من غياب الدستور أو تغييبه؟ قد تبدو إجابتنا عن هذا السؤال شطحة من الخيال، ولكن ما عشناه وخبرناه من ساستنا ونخبنا ونفعيتهم وبراغماتيتهم تجعل كل شيء جائزا.
صرح رئيس المجلس الأعلى للدولة في وقت سابق بضرورة تغيير مجلس إدارة المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، ودعا مجلس النواب إلى وضعه من ضمن المناصب السيادية التي يراد التوافق على شاغليها، وهذا الأمر جعل رئيس المفوضية يناصب رئيس المجلس الأعلى للدولة العداء وإن لم يظهر ذلك بوضوح فإنه كذلك لا يخفى، فالرجلان لم يلتقيا منذ مدة طويلة رغم قرب المسافة بين مقريهما في طرابلس؛ بينما يسافر رئيس المفوضية بشكل دوري إلى مدينة القبة في شرق البلاد ليلتقي بعقيلة صالح في مربوعته التي جعلها مكتبا يدير منه شؤون البلاد، كما أن رئيس المفوضية ضرب بمراسلات رئيس المجلس الأعلى للدولة حول رفض قانون الانتخابات عرض الحائط بل ولم يتجشم حتى عناء الرد عليها، ما قد يثير الشك في موقف رئيس المفوضية الذي لعله أصبح يربط بقاءه في منصبه ببقاء مجلس النواب، وما دام بقاء مجلس النواب لا يتم إلا بإخفاء الدستور؛ فلا ظهر الدستور!
لنترك المفوضية ونعود لمجلس النواب الذي دعا رئيسه عقيلة صالح في جلسة للمجلس في يناير الماضي إلى ضرورة العمل على تشكيل لجنة من 30 شخصا من المفكرين لصياغة دستور توافقي، بدلا من المضي في دستور مرفوض من شرائح عديدة حسب تعبيره.
من هي الشرائح الرافضة لمشروع الدستور حسب تعبير عقيلة صالح؟ هل يقصد الأمازيغ والتبو؟ هؤلاء قاطعوا الدستور منذ صياغة قانون انتخاب هيئته التأسيسية ولم يشاركوا في الانتخابات ولم يكونوا ممثلين في جلسات الهيئة التأسيسية منذ انطلاق جلساتها في 2014 وحتى اختتامها في 2017 وتسليم مسودة الدستور لعقيلة صالح في يوليو 2017، فإذا كان عقيلة صالح مهتما بتوافق شرائح المجتمع؛ لماذا لم يرفض المسودة حينذاك وانتظر حتى يناير 2022 ليعبر عن رأيه، ولماذا صاغ عقيلة صالح ومجلسه قانون الاستفتاء المعيب وهو يعلم أن شرائح من المجتمع ترفض مسودة الدستور أصلا؟ ماذا لو أجري الاستفتاء حسب القانون المعيب وأقر؟ ما مصير الشرائح أو ما مصير رفضها ولماذا لم يهتم عقيلة صالح برفضها إلامؤخرا؟
أما إذا كان يقصد أن شرائح أخرى من المجتمع ترفض مسودة الدستور فهنا يرد سؤال ملح؛ من هي هذه الشرائح؟ وكيف عرف برفضها؟ هل أجرى استفتاء أو استطلاع رأي اطلع من خلاله على آراء الناس حول المسودة؟ أم أن هذه الشرائح المزعومة أسرت له بذلك؟
كما أن عقيلة صالح تحدث عن تشكيل لجنة من 30 شخصا من المفكرين لصياغة دستور توافقي! لماذا 30؟ ما الرمزية في ذلك؟ ومن سيختار هؤلاء المفكرين وما هي معايير اختيارهم؟ وهل سيوافق الجميع على هذه الاختيارات؟ وفي حال حدوث ذلك ما الضمانات على القبول بما سينتجه هؤلاء المفكرون؟ ألن ترفض شرائح أخرى دستورهم كما رفضت بعض الشرائح دستور لجنة الستين؟
بالعودة إلى الحديث عن المستفيد من غياب الدستور؛ ولأن الأشياء تعرف بأضدادها؛ فإن المتضرر من الدستور مستفيد بالضرورة من غيابه، وإن أحد أبرز المتضررين بصفة شخصية من مشروع الدستور الحالي –إن لم يكن أبرزهم- هو قائد القوات العسكرية في شرق ليبيا، خليفة حفتر، فالرجل لم يخف يوما نيته في حكم البلاد، وقد سعى إلى ذلك بالقوة المسلحة، وفشل في 2019 ما زال يسعى إلى ذلك حتى الآن، وهو رغم رغبته الجامحة في السيطرة على البلاد عبر القوة؛ غير أنه لم يقفل الباب على الوصول إلى السلطة عبر الانتخابات فقد رشح نفسه في الانتخابات سابقا وسيرشح نفسه في الانتخابات لاحقا، إلا إذا أجريت هذه الانتخابات وفق الدستور بعد اعتماده، حيث أن المادة 99 من مسودة الدستور الحالية المتعلقة بشروط الترشح لرئاسة الجهورية تنص في فقرتها الثانية على ( ألا يكون قد سبق له الحصول على أي جنسية أخرى، ما لم يكن قد نزل عنها قانونا قبل سنة من تاريخ فتح باب الترشح).
ولا يخفى على أحد أن السيد حفتر حاصل على جنسية الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنوات ويملك عقارات عناك كما أنه يقاضى حاليا في مقر سكنه السابق في ولاية فرجينيا بتهم ارتكاب جرائم في ليبيا، وبما أن مسودة الدستور تنص على إقصاء حاملي الجنسيات الأخرى من الدخول في سباق الرئاسة فإن من مصلحة كل هؤلاء –ومن بينهم حفتر- أن لا تجرى الانتخابات القادمة على أساس الدستور لأنهم لن يكونوا في هذه الحالة جزءا منها، فهل لمزدوجي الجنسية –ومن بينهم حفتر- دور في إخفاء الدستور؟
وهنا قد يرد سؤال عن المليشيات المسلحة خاصة في غرب البلاد ولماذا لم تذكر في هذا السياق؟ والإجابة عن ذلك أن المليشيات المتطفلة هي كالعوالق التي تمتص الدماء من جسد الفريسة وتعيش على جسد فريستها، ولأنها تعيش على جسد الدولة فهي مستفيدة من غياب مؤسسات الدولة لا من غياب الدستور، وفي حال استمرار ضعف المؤسسات التنفيذية فإن المليشيات ستبقى حتى مع وجود الدستور فهي بالتالي ليست مستفيدة من غياب الدستور وليست متضررة بشكل مباشر من ظهوره واعتماده.
من سرق الدستور؟ من أخفاه؟ من اغتال حقي وحقك في تقرير مصيرنا عبر الاستفتاء عليه؟
هل هو مجلس النواب وهو أكبر المستفيدين من غياب الدستور؟ أم هل هو المجلس الأعلى للدولة وهو مستفيد من غياب الدستور وبقاؤه مرهون باستمرار هذا الغياب؟ أم هل هي مفوضية الانتخابات التي ترفض إجراء الاستفتاء رغم تأكيدها على قدرتها على إجراء انتخابات بل وقدرتها على إجراء استفتاء على قاعدة دستورية؟ أم هل هو خليفة حفتر صاحب القوة العسكرية الفاعلة والحاكم الفعلي لشرق ليبيا ومعظم جنوبها والذي من غير المحتمل أن تحمي قواته في الشرق والجنوب صناديق استفتاء على مسودة دستور ستنهي إن أقرت فرص وصوله إلى السلطة سلميا؟
الأكيد أن كل من ذكروا وغيرهم ومستفيدون من غياب الدستور ومتهمون بسرقته، وهم جميعا أبرياء حتى تثبت إدانتهم، ولن تثبت إدانة أحد منهم إذا استمر أصحاب المصلحة الحقيقيون في ظهور الدستور في سلبيتهم وعدم اهتمامهم، فمن سرق دستورنا لن يتطوع لإظهاره إذا لم نقف في مواجهته لنطالب بحقنا، فالدستور هو وسيلة حمايتنا الوحيدة من عبث من هم في السلطة حاليا، ومن ظهور أمثالهم في المستقبل.
لقد عاشت بلادنا طوال عقود بلا دستور يكفل للناس حقوقهم ويكبح تغول السلطة عليهم، وآن لها الآن أن تسترد حقوقها وتفتح فصلا جديدا في حياتها وحياة أبنائها، فصلا لا مكان فيه للصوص الدساتير، فدعونا نقف صفا واحدا لنواجههم ونكشفهم ونفضحهم ونستعيد حقوقنا منهم فإن الحقوق ليست هبة لتعطى، وإنما تنتزع انتزاعا ممن سرقها.