هل سمعت بدولة تُزور عملتها ؟ (مزور و في يده شمعة )
منذ أيام أصدر مصرف ليبيا المركزي تسجيلا مصورا تحدث فيه عن أربعة إصدارات يتم تداولها في الأسواق المحلية للعملة الليبية فئة 50 دينارا، وبين التسجيل أن الإصدارات الأربعة منها اثنتان صحيحة ومعتمدة واثنتان مزورة، بعد صدور التسجيل المصور بساعات قليلة أعلنت عدة مصارف تجارية تلقيها كتابا من مصرف ليبيا المركزي يوجه فيه بالبدء التدريجي في سحب العملة فئة 50 دينارا من التداول، ويمنح المواطنين والشركات والجهات العامة والخاصة حتى نهاية دوام يوم 29 أغسطس 2024 لإيداع ما بحوزتهم من أموال من هذه الفئة في المصارف لسحبها نهائيا من التداول، المنشور لم يذكر بشكل صريح وواضح أن النسختين الثالثة والرابعة من العملة المذكورة لن تقبل في المصارف، ولكنه أشار إلى ذلك حيث أكد أن على المودعين فرز أموالهم على الإصدارين المعتمدين الأول والثاني.
ما هي أسباب هذا القرار؟ ما هي تداعياته المباشرة وغير المباشرة على الاقتصاد الليبي وعلى المواطن الليبي؟ هل سينهي هذا القرار التزوير في العملة؟ وما هو مصير الأموال المزورة الموجودة حاليا خارج المصارف وبحوزة المواطنين؟ هذا ما سنحاول الحديث عنه باختصار في السطور القادمة.
القرار بسحب العملة من فئة 50 دينارا من التداول لم يكن مستغربا، بل إنه كان متوقعا، حيث سبقته عدة تصريحات من محافظ مصرف ليبيا المركزي يؤكد فيها وجود عملة مزورة في الأسواق وصفها بأنها (مجهولة المصدر)، وأرسل كتابا في فبراير الماضي لرئيس مجلس النواب يعلمه فيه أن المصرف المركزي سيصدر قرارا بسحب هذه الفئة من العملة الليبية من التداول خوفا من ارتفاع معدلات التزوير وتعذّر تمييزها بين المواطنين، وكذلك لإحداثها ضررا جسيما بالاقتصاد ولاستخدامها في أنشطة غير مشروعة حسب تعبيره.
إذا فإن أسباب هذا القرار هي السيطرة على أزمة التزوير التي ظهرت على السطح مؤخرا والتي تنسب إليها حكومة الوحدة الوطنية أسباب ارتفاع سعر العملات الأجنبية وانخفاض سعر الدينار الليبي، حيث تقول الحكومة إن –جهات لم تسمها- تقوم بطباعة العملة المزورة فئة 50 دينارا لتمويل عمليات شراء الدولار من السوق الموازية، ما أدى إلى ارتفاع سعر العملات الأجنبية وشح السيولة في المصارف.
ومن الأسباب أيضا ضبط السوق النقدية، وتعزيز الثقة في العملة الوطنية، والحفاظ على السعر الجديد لبيع العملات الأجنبية، بعد أن كانت أزمة العملة المزورة أحد أهم أسباب فشل المصرف المركزي في الدفاع عن السعر القديم.
ولكن ألا تستطيع هذه الجهة المسؤولة عن الإنفاق الموازي –والتي يبدو أن الجميع يعرفها ولا أحد يريد أن يذكرها- أن تتحول إلى طباعة فئة العشرين دينارا الآن بعد أن أصبحت الأعلى قيمة في التداول بين فئات العملة؟ الجهة التي تزور النقود زورت فئة الخمسين دينارا لأنها الأعلى قيمة، ليس لأنه رقم الحظ بالنسبة لها، أو لأن أجهزتها وطابعاتها معدلة عليها ولن تستطيع العمل الآن بعد سحبها، إذا كان سحب العملة لحل أزمة التزوير فهو قرار غبي وغير مدروس، فاليوم نعاني من الخمسين دينارا المزورة وغدا سنعاني من العشرين، فنسحبها لنتحول إلى المعاناة من العشرة وهكذا، معاناتنا ستستمر حتى نملك الشجاعة لمواجهة أسبابها، أما إذا كان المصرف المركزي –أعلى سلطة نقدية في البلاد- عاجزا حتى عن ذكر اسم الجهة التي تزور العملة، فقراراته لمواجهة الأزمة الحالية والأزمات اللاحقة لن تكون إلا ذرا للرماد في العيون وإلهاء عن المشكلة الأصلية التي ستظل قائمة، ولن يحتاج المزور –المجهول- إلا لتغيير إعدادات طابعاته ليغرق السوق بأعلى فئة من العملة بعد أن سحب عباقرة الاقتصاد الفئة التي تسبقها.
تأثير هذا القرار على المواطن الليبي يمكن أن يكون متنوعا ومعقدا، فعلى الرغم من أن الهدف الرئيسي هو تعزيز الثقة في العملة الوطنية، إلا أن هذا قد يؤدي إلى تأثيرات سلبية على الحياة اليومية للمواطنين، مثل زيادة صعوبة الوصول إلى المال النقدي وزيادة التكاليف المالية لبعض العمليات اليومية، خاصة مع رفض الكثير من المحال التجارية والأسواق قبول فئة الخمسين دينارا من المواطنين، فيهرع هؤلاء إلى المصارف للتخلص من العملة التي يراد سحبها، بينما تقوم نفس المصارف عبر آلات السحب الذاتي بإعادة توزيع نفس العملة على المواطنين الذين يرغبون في السحب النقدي من حساباتهم، لنعود للدوران في نفس الحلقة المفرغة، يعني بالليبي (من لحيته افتلّه حبل).
علاوة على ذلك، يمكن أن يؤثر هذا القرار على الاقتصاد الليبي بشكل كبير، خاصة فيما يتعلق بالقطاع المصرفي والتجاري، قد تواجه البنوك والمؤسسات المالية تحديات في إدارة السيولة وتوفير الخدمات المالية بشكل كاف للمواطنين والشركات، كما قد يؤدي هذا القرار إلى تقليل حجم التداول النقدي وزيادة الاعتماد على وسائل الدفع الإلكترونية التي لم تحصل بعد على ثقة المواطنين، كما أن خدماتها غير ثابتة وغير مستقرة ولن تنجح في أي وقت قريب في الحلول محل العملة التقليدية التي لم تنجح السلطات النقدية في الدفاع عنها، لا من حيث القيمة ولا من حيث الأصالة.
أضف إلى ذلك أن هذا القرار لن ينهي تزوير العملة كما ذكرنا، بل سيتحول المزور إلى طباعة فئات أخرى من العملة، وربما يكون قد تحول أصلا إلى ذلك، وقريبا سيتحدث المحافظ عن عملة مزورة تملأ الأسواق ربما هذه المرة من فئة العشرين دينارا.
كان أجدر بمصرف ليبيا المركزي وبوزارة المالية وغيرهما أن يذكروا الجهة التي تقوم بالتزوير، لا أن يكتفوا بالتلميح إليها والاتهام المبطن، وأن يقوموا بخطوات عملية لإيقاف عمليات التزوير بدلا من اعتبارها أمرا واقعا، والتعامل مع تداعياتها.
وأخيرا ما هو مصير الأموال المزورة الموجودة حاليا خارج المصارف وبحوزة المواطنين؟ المصارف أشارت إشارة واضحة إلى أنها لن تقبلها، ما هو ذنب المواطن ليتحمل عبء فشل الدولة في حماية العملة؟ والأدهى من ذلك أن يتحمل المواطن هذا العبء مرتين، الأولى بتحمل ما تسبب به التزوير من إضعاف للعملة المحلية وبالتالي ارتفاع كبير في أسعار السلع والخدمات، والثانية بخسارة أمواله التي حصل عليها بطرق مشروعة غير أنها من فئات لم تستطع الدولة حمايته من انتشارها -بل ساهمت في ذلك بسكوتها عن المزور مع علمها من يكون-.
الجهة التي زورت العملة مولت من خلالها عمليات شراء ملايين الدولارات من السوق الموازية، تسبب ذلك في ارتفاع سعر الدولار، وبالتالي ارتفاع أسعار كل السلع بدون استثناء، وبذلك فالمزور الآن يملك أموالا سليمة من عملات أجنبية، ويملك المواطنون أموالا مزورة لن تقبلها المصارف، ومع وجود هذه الأموال وقبل قرار سحبها لم تكن حياة المواطن سهلة، بل كانت صعبة ومعقدة وزاد ارتفاع الأسعار من صعوبتها وتعقيدها، ومع ذلك فعليه الآن أن يعاني مرة أخرى من حرمانه من أمواله التي لم تكن تكفيه أصلا، وعليه أن يهتف للمزور المجهول، والمشرع المعروف، والمحافظ الذي لم يحافظ، والمؤتمن الذي لم يكن أمينا، وعليه أن ينسب تبعات أفعالهم إلى الخصوم السياسيين للجهة التي يدعمها، أما حقوقه وحقوق أبنائه فما عليه إلا أن ينتظر انتصار رموزه ليهبوها إليه، فمبدأ أن الحقوق تنتزع ولا تعطى يبدو مزورا في بلادنا.