من يغزو عقولنا بالتفاهة ؟ و علاش ؟
منذ أيام قليلة خرج علينا رئيس مجلس النواب عقيلة صالح في لقاء تلفزيوني ليبشرنا أن لجنة الشؤون المالية في مجلسه الموقر قد وافقت من حيث المبدأ على مقترح محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير بفرض ضريبة إضافية على العملة الأجنبية المستخدمة للأغراض الشخصية وللاعتمادات المستندية.
ما هو مقترح المحافظ؟ اقترح الصديق الكبير على عقيلة ومجلسه تعديل سعر صرف الدولار، واقترح أن يكون سعر الصرف الرسمي الجديد ما بين 5.95 و6.15 دينار للدولار بعد فرض ضريبة نسبتها 27 في المئة.
وقال الكبير إن سعر الصرف الجديد يطبق على كافة الأغراض ما عدا القطاعات السيادية والخدمية الممولة من الخزينة العامة!
أي أن السعر المقترح الجديد يخص فقط ما يوجه للمواطن، الأغراض الشخصية أي البطاقات التي يصرفها المواطنون مباشرة، والاعتمادات المستندية التي تتعلق باستيراد السلع التي يستهلكها المواطنون، أما ما يسمى القطاعات السيادية والخدمية الممولة من الخزينة العامة، فقد استثنيت من الزيادة وسيظل سعر الصرف الرسمي لها هو 4.8 دينار للدولار الواحد.
اقترح الكبير على عقيلة زيادة معاناة المواطنين ورفع أسعار السلع المقدمة إليهم لأن فساد الحكومة وفساد القطاعات السيادية والخدمية الممولة من الخزينة العامة قد تسبب في إرهاق ميزانية الدولة وأضعف الدينار الليبي، عقيلة بدوره وافق على المقترح، فلا عقيلة ولا مجلسه ولا الحكومة سيحسون بالفرق أو يلحقهم التأثر والضرر بزيادة أسعار كل شيء تقريبا بما لا يقل عن ثلاثين في المئة من السعر الحالي.
من الذي يفترض أن يرفض، ويفترض أن يتظاهر ويطالب الحكومة بتقليل إنفاقها، ويطالب المجالس الثلاثة بتقليل سفريات رؤسائها وأعضائها، ويطالب بتحجيم مشتريات القطاعات السيادية والخدمية الممولة من الخزينة العامة لينخفض معها الطلب على الدولار فيقل سعره، ويقل معها الإنفاق العام فتزول الحاجة إلى فرض ضريبة على المواطنين لتعديل الكفة؛ المفترض أن يرفض الشارع الليبي –المتضرر الأول والوحيد من هذا الأمر- وأن تثور ثائرته ويعبر عن غضبه من استهدافه في قوته وقوت عياله، ولكن للأسف ليس هذا وقت الدفاع عن حقوقنا، فالرأي العام الآن مشتغل بأمور و"ترندات" أهم من هذا بكثير، نحن منشغلون الآن بـ"سعد ولد بنغازي" ولماذا لم يستدعى طارق التائب لحفل افتتاح ملعب طرابلس، هل خرجت كريمة من السجن؟، ومنشغلون أيضا بمناكفات ثقافية مع التونسيين والسوريين والسعوديين وغيرهم دفاعا عن الهوية الثقافية الليبية وحماية للموروث الثقافي من السرقة، فقد نسب هؤلاء وغيرهم أغان أيقونية ليبية إلى مغنيين ومغنيات من بلدانهم.
لماذا نترك الأمور التي تمس حياتنا المباشرة ونختار الاهتمام بأمور إن لم تكن تافهة أساسا؛ فهي على الأقل غير ذات أهمية مباشرة لنا؟ أليس من الغريب أن يحدث أمر جلل كخفض جديد لقيمة الدينار الليبي وبقيمة لا تقل عن 27 في المئة، ثم لا تجده يأخذ حيزا كبيرا من نقاشات الناس واهتماماتهم، بينما يأخذ الحديث عن شخص لم يدع لحفل، أو شخص سجن أو آخر أطلق حيزا يفوق ذلك ويزيد عليه؟ من يوجه اهتمامات الناس؟ من يصوغ أفكارهم؟ من يشكل إعجابهم ورفضهم وحبهم وكرههم؟ من هو هذا الشخص أو هؤلاء الأشخاص الذين يعلمون مصلحتي ومصلحتك أكثر مني ومنك؟
منذ أيام قليلة أيضا نشر جهاز الردع لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب تسجيلا مصورا قال إنه اعترافات لشخص اتهمه بإدارة مجموعة من الصفحات على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، هدفها التضليل ونشر الأخبار والتقارير الكاذبة، بغض النظر عن صدقية التهم ومشروعيتها، وبعيدا عن الخوض في الجدلية القانونية فليس هنا محل طرحها، ولكن ما يعنينا في مقالنا اليوم هو تسليط الضوء على فكرة أجهزة الدولة ومؤسساتها السيادية والأمنية التي تنفق أموال البلاد والعباد –وستشتري الدولار بسعر أقل مما ستشتريه أنت أو التاجر الذي سيجلب لك الدقيق والزيت- لصناعة رأي عام موافق لما تريد، أو توجه الرأي العام بعيدا عن الأمور التي لا تريد للعامة أن يخوضوا فيها.
عندما تتصفح أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي على هاتفك الذكي، ألا يشغلك كمية الغباء التي تبث من خلاله؟ ألا تسأل نفسك من الذي يسوق لكل هذه التفاهة؟ من الذي ينفق الدولارات لتمويل مقاطع مسجلة أو صور أو تصريحات ساذجة ومسيئة وتافهة ومثيرة للفتن والقلاقل؟ ألا يخطر في بالك أن قراءة مقال عن أزمة الدولار، أو مشاهدة فيديو عن تداعيات مقترح المصرف المركزي على الاقتصاد الليبي هو أهم من الأخبار والتقارير الملفقة الذي نشاهدها كل يوم؟
لقد سلط الفيديو الذي نشره جهاز الردع الضوء على فكرة قد تكون غائبة عن الكثيرين، فمن يملك المال –وهو المسؤولون في الدولة طبعا- أصبح بإمكانهم ف ظل الثورة المعلوماتية والانفجار الشبكي؛ أن يقودوا المجتمع ويوجهوا الرأي العام، بل ويشكلوا مشاعر الناس، ويخبروهم متى يتعاطفون ومتى يبغضون، متى يحبون ومتى يكرهون، أي قضايا تهمهم، وأي قضايا تشغلهم، وأي قضايا تطرح للاستهلاك الإعلامي ثم يتم تجاوزها في زحمة اهتماماتنا اليومية بـ"الترندات الأكثر رواجا".
بعدما شاهدناه في السنوات الماضية من صراع على السلطة سواء باستخدام الأسلحة التقليدية أو الأسلحة الناعمة كالإعلام والتكنولوجيا؛ نكاد نجزم بأن طوفان المعلومات المتعارضة والمتناقضة، التافهة والنافعة، الحقيقية والمفبركة، وكل ما نتلقاه من إعلانات ممولة على حساباتنا في وسائط التواصل الاجتماعي ما هو إلا نتاج مخططات محسوبة تحاك في غرف عمليات مقراتها فلل في حي دمشق وغيرها، مهمتها إعادة صياغة وعينا الجمعي، وتوجيهنا باستخدام عواطف الرضا والغضب والتعاطف والشماتة وغيرها لننصرف عن التفكير في مشاكلنا الحقيقية –وهي حكامنا وأدواتهم- ولنفكر فيما يحمله اليوم من "ترندات" في فيسبوك وانستاغرام وتيكتوك.
عزيزي القارئ؛ حكامنا في الشرق والغرب لا يحترموننا، ولا ينظرون إلينا إلا كرعية يسهل توجيهها والسيطرة عليها، فهم ينفقون الأموال التي هي بالأساس أموالنا لتوجيهنا للتفكير في أمور لا تهمنا، لننشغل عنهم بينما هم منهمكون في سرقة أموالنا وحياتنا ورفاهنا وأمننا وحاضرنا وحتى مستقبل أبنائنا، اليوم رفعوا سعر الدولار لترقيع سرقاتهم، وغدا سيتسع خرق سرقاتهم أكثر فيرفعون السعر علينا لترقيعه ثانية، ثم بعدها يتسع من جديد أو لعل النسج يخرق في مكان آخر ولا سبيل لترقيعه إلا بزيادة معاناتنا، ويستمر الحال هكذا بيننا وبينهم حتى لا يبقوا على نسيج يرقع، فيلموا غلة سرقاتهم ويتركوا لنا البلاد خالية بلقع، ونبقى نحن في سباتنا الأبدي نتجادل عن سبب غياب اللاعب عن المباراة والفنانة عن الاحتفال، وما رأيك في "سعد ولد بنغازي".