بين الاستقرار ووهم الإستقرار ؟
بدأت الأجهزة التنفيذية في حكومة عودة الحياة في وضع اللمسات الأخيرة على صيانة ملعب طرابلس الدولي، وتجهيز كل شيء حوله بما في ذاك صيانة الطريق المؤدية إليه والتي تركت لمصيرها ومصير مستخدميها؛ بدون استكمال منذ نحو عام، ويوم 17 فبراير حين يأتي رئيس الحكومة وأتباعه ومرافقوه لافتتاح الملعب الإنجاز؛ سيتناسى معظم الناس أن هذا الإنجاز التاريخي احتاج من حكومة عودة الحياة أكثر من عامين ونصف لتحقيقه وعشرات الملايين من الدينارات ليلتقط فيه قائد الاستقرار صورا للذكرى ليخلد بها نفسه كقائد ملهم لمسيرة عودة الحياة.
عامان ونصف من الزمن وعشرات الملايين من الدينارات كفيلة بإنشاء مدن رياضية متكاملة ومرافق متكاملة حولها، ولكن في ليبيا تحقيق صيانة عادية لمبان قائمة في هذا الزمن وبهذه المبالغ يعتبر إنجازا يستحق الثناء والاحتفاء، وسيتم اعتبارك خائنا لمجرد انتقادها، أو الإشارة إلى أنها أقرب إلى السرقة من الإنجاز.
الاحتفاء بإنجاز مشبوه ليس بعيدا عن طباع مجتمعنا الذي يحتفي بالفشل فما بالك بالنجاح المكلف، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تذكر، ومن أبرزها طرق عودة الحياة وجزر دورانها التي أنفقت عليها الملايين من أموالكم وغرقت في أول اختبارات الشتاء، وكذلك إنجازات شركة الكهرباء التي تمكنت من تحقيق ما كان يعتبر مستحيلا قبل سنوات قليلة، تمكنت من تحقيق استقرار الشبكة العامة للكهرباء والقضاء شبه المبرم على فصل الأحمال، هذا الإنجاز كفيل بجعل التساؤل عن تكلفته نوعا من الخيانة، بل حتى السؤال عن مصدر الأموال التي يمول بها رئيس مجلس إدارة الشركة العامة للكهرباء صفقات انتداب لاعبي أحد أندية طرابلس يضعك في خانة العميل المدسوس الذي لا يريد الاستقرار للوطن والمواطن.
لسنا ضد الاستقرار وعودة الحياة ومشاريعها الحقيقية وحتى الوهمية؛ ولكننا ضد وهم الاستقرار، وسنحاول تعريته وفضحه وتحريك مياهه الراكدة لعل ذلك يثير زوبعة لو بسيطة لتلقي بظلال الشك على ما يفعله اللصوص المتربصون بثروات البلاد وقوت أبنائها تحت اسم الاستقرار ومشاريعه.
أظن أن أبرز ما تمكنت حكومة عودة الحياة من تحقيقه؛ ليس المؤتمرات والمنتديات الدولية التي نجحت في استضافتها، ولا استكمال المشاريع المتوقفة منذ سنوات والتي عجزت الحكومات المتعاقبة عن استكمالها، ولا تحقيق استقرار شبكة الكهرباء والقضاء على الأحمال التي أثقلت كاهل الناس خلال أكثر من عشر سنوات؛ إنما هو نجاحها في تدجين معظم التشكيلات المسلحة في طرابلس وما جاروها، وتحويلها من تشكيلات مفترسة لا تعيش وتنتعش إلا في الحروب والاشتباكات، إلى تشكيلات مدجنة تشارك في مشاريع الاستقرار فتملأ جيوب قادتها منها وتجعلها أبرز حماتها وحراسها والمدافعين عنها، لأن استمرار الاستقرار الوهمي ومشاريعه هو استمرار استقرار أمورها المادية سواء من ناحية إعاشة ومرتبات أفرادها البسطاء، أو من ناحية الثروات الفاحشة التي يجمعها قادتها الذين تحولوا من فقراء قبل 2011 إلى أباطرة الاستقرار في عهد عودة الحياة.
الفرق بين الاستقرار ووهم الاستقرار يتمثل في أن الأول تحكمه خطط مدروسة تبنتها حكومة منتخبة بقوانين دستورية، وقامت هذه الحكومة المنتخبة بتكليف مجالس خبراء ومستشارين معتمدين قدموا خططا قابلة للتنفيذ في إطار إمكانيات الدولة ومواردها ورؤيتها الاستراتيجية، وعرضت هذه الخطط على مجلس نواب منتخب من الشعب قام بدراستها ودراسة جدواها ثم اعتمدها فباشرت أجهزة الحكومة في تنفيذها، وبعد مباشرة تنفيذها قامت أجهزة الدولة الرقابية بالإشراف الدقيق عليها ومحاسبة من يقوم بإنجازها والتدقيق في ميزانيتها لحمايتها من السرقة ولضمان جودتها وصلاحيتها.
أما مشاريع الوهم فهي مشاريع ورقية أشبه بسراب يترأى للناظر في الصحراء فيحسبه ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، أو هي مشاريع مضخمة ومنفوخة إعلاميا لغرض تسويقها للعامة على أنها إنجازات تاريخية، وفي جميع الأحوال فهي بطولات من ورق لحكومة لم ينتخبها أحد، تنفذ خططا لم يقرها مجلس النواب المنتخب؛ ولا وجود أصلا لمجلس نواب منتخب؛ وتنفذ هذه المشاريع بدون وجود رقابة، وإن وجدت فهي والعدم سواء لأن العلاقة بينها وبين الحكومة وأجهزتها ضبابية لا يحكمها قانون مستند على دستور لأن الدستور غير موجود أصلا، وتنفذ هذه المشاريع شركات معظمها متعاقد بالباطن يملكها الوزراء أو الوكلاء أو قادة التشكيلات المسلحة أو أقاربهم، ولأن حكومة عودة الحياة ليست على وفاق مع مجلس نواب العازة فإن الأخير لم يصرف لها ميزانية، فمن أين إذا ستنفق الحكومة على مشاريعها واستقراراها، هنا يأتي دور خطة 1/12 العبقرية والتي تتمثل في التزام مصرف ليبيا المركزي بتغطية الإنفاق الحكومي كل شهر بما يعادل 1/12 من آخر ميزانية معتمدة، وهذا يعني مليارات الدينارات بلا حسيب ولا رقيب، فأباطرة المال العام لا يخشون الله فيتقونه ولا تقوم أجهزة الدولة بمحاسبتهم لأنها إما عاجزة عن ذلك أو هي متواطئة معهم، فتستمر السرقة واستنزاف المال العام واستغفال المواطن، ولكن هذه المرة بإيهامه أن حياته آمنة ومستقرة، وأن الحكومة تسعى إلى استقرار البلاد وعودة الحياة إليها، بينما هي في الحقيقة لا تسعى إلا إلى إطالة أمد وجودها في السلطة، ولأنها لا تملك القوة العسكرية الغاشمة التي يملكها المستبدون والدكتاتوريون، فقد قررت اللجوء إلى القوة الناعمة التي توفرها لها ميزانية 1/12، أنفق أموال الشعب بلا حساب، اضمن بقاءك في السلطة وبقاء حاشيتك في نعيم مناصبهم، ووفر غطاء الشرعية للتشكيلات المسلحة لتمارس إرهابها لصالحها وصالحك، واضمن بقاء الشعب في غيبوبة الاستقرار الوهمي لأنك نجحت في تحقيق المعادلة التي فشل فيها من سبقك.
وحتى نجاح حكومة عودة الحياة في تحقيق المعادلة التي فشل الجميع في تحقيقها منذ سنة 2011 –وهي تدجين التشكيلات المسلحة- قد لا يعتبر ذكاء وتخطيطا من الحكومة ورئيسها بقدر ما هو استغلال منهم لظروف مواتية اجتمعت إثر الخروج من حرب استنزاف طويلة استمرت قرابة عام ونصف ولم ينتصر فيها أحد، استنزفت الحرب موارد التشكيلات المسلحة المالية والبشرية وأفرزت تحالفات جديدة وتشكيلات وليدة أضعفت البعض وقوت البعض الآخر، وجعلت قبول قادتها بتقديم بعض التنازلات مقابل الشراكة في كعكة الاستقرار الدسمة أمرا واردا بعد أن كان بعيد المنال قبل سنة 2019.
خلاصة الكلام أن مشاريع إعادة الإعمار وعودة الحياة والاستقرار وغير ذلك من الشعارات، سواء في شرق البلاد أو في غربها وجنوبها، ما هي في الحقيقة إلا لافتات براقة تشغلنا بالحديث عنها والثناء على منجزها، وتجعلنا –في غمرة سكرتنا- نغفل ما يدور خلفها من سرقات لأموالنا وأموال أبنائنا، وما يحيط بها من مخططات لا تسعى إلا إلى استمرار الوضع الراهن وبقاء المتمترسين في حصون السلطة على عروش سطوتهم، وبقائنا نجمع فتات موائدهم لنشبع بطوننا ثم نرفع أكفنا إلى السماء لندعو لهم بطول البقاء، بلا دستور ولا انتخابات، فما يهمنا حقا هو فقط الاستقرار، أو حتى وهمه!