من المستفيد من إضعاف الدينار الليبي يا ترى ؟
لعل المتابع لحركة الاقتصاد الوطني خلال العقود الماضية يلاحظ بأنه قد شهد العديد من المشاكل والصعوبات الاقتصادية والمالية مما استدعى انتهاج مجموعة من السياسات والإجراءات الاقتصادية التي تهدف إلى معالجة الاختلالات التي حدثتْ، ومن بينها سياسة سعر الصرف باعتباره أهم مؤشرات السياسة النقدية.
فخلال الفترة من 1999– 2000 تم الرفع التدريجي في قيمة الدينار الليبي وفقاً لسعر الصرف الخاص المعلن مصحوباً بين الحين والآخر بتخفيض في قيمته وفقاً لسعر الصرف الرسمي، وكنتيجة لذلك تراوح السعر الرسمي للدينار الليبي مقابل الدولار الأمريكي مابين 3.54 دولاراً للدينار الواحد في نهاية عام 1990 إلى 1.55 دولاراً للدينار الواحد في نهاية عام 2001 كما تغيرتْ أسعار صرف العملات الأجنبية الرئيسية الأخرى مقابل الدينار الليبي وفقاً للتغيرات التي طرأتْ على القيمة التعادلية للدينار الليبي مقومة بوحدات حقوق السحب الخاصة.
وفي يناير 2002 تم تعديل وتوحيد أسعار صرف الدينار الليبي في اتجاه تخفيض قيمته وفقاً لسعره الرسمي بنسبة 50% عما كان عليه في نهاية عام 2001، ليصبح 0.6080 وحدة حقوق سحب خاصة لكل دينار ليبي واحد أو ما يعادل 1 دينار = 1.3 دولاراً، وفي منتصف 2003 تم تخفيض سعر صرف الدينار الليبي بواقع 15% ليصبح 0.5175 وحدة حقوق سحب خاصة مقابل كل دينار ليبي واحد، وذلك بهدف احتواء ضريبة النهر الصناعي التي كانتْ تفرض على كافة الاعتمادات والتحويلات بالنقد الأجنبي، وكذلك إلغاء التمييز في سعر الصرف بين الجهات المُعفاة وغير المُعفاة من هذه الضريبة.
وحينها أبلغتْ الدولة الليبية صندوق النقد الدولي رسمياً بقرارها قبول الالتزامات المحددة بموجب المادة الثامنة من اتفاقية الصندوق، وذلك بأن ألغتْ القيود التي كانتْ مشروطة بالموافقة بموجب المادة الثامنة، بما في ذلك ضريبة النهر الصناعي البالغة 15% على الاعتمادات والتحويلات الخارجية وعلى مشتريات الأفراد والقطاع الأهلي من النقد الأجنبي وغيرها من القيود التي كانتْ مفروضة على عمليات الحساب الجاري، وقد قام مصرف ليبيا المركزي خلال الفترة من 2002 – 2010 باتخاذ العديد من الإجراءات المتعلقة بالسياسة النقدية وتحقيق أهدافها، فقد صدر قرار محافظ مصرف ليبيا المركزي رقم (32) لسنة 2005 بتـــــاريخ 2005.4.7 بإنشـــــاء "لجنة السياسة النقدية" بالمصرف تضم في عضويتها بعض المسئولين بالمصرف وبعض المختصين من خارجه لوضع الإطار العام للسياسة النقدية بما يكفل تحقيق أهدافها وتأثيراتها في النشاط الاقتصادي ورفع توصياتها إلى مجلس الإدارة لاتخاذ ما يراه بشأنها.
أما بعد (2010) سيلاحظ المراقب للوضع الاقتصادي في ليبيا فشلاً واضحاً في السياسة المالية وعجزاً كبيراً في السياسة النقدية في حلحلة الأزمات التي تعصف بالاقتصاد الليبي، كما سيتضح له عدم وجود تنسيق بين السياستين وتبعية السياسة النقدية للسياسة المالية.
فبعد ثورة 17 فبراير واعتماداً على تقديرات اسعار النفط المرتفعة في أعوام 2011- 2013م فقد طرأت زيادة هائلة على جانب الإنفاق العام في الميزانية العامة وشهد العام 2013 أضخم ميزانية حكومية في تاريخ ليبيا في عهد حكومة زيدان. والزيادة في النفقات العامة لم تكن في باب التنمية فهذا ما كان يفترض أن يكون، وذهبت معظم النفقات في هيئة مرتبات للعاملين في القطاع الحكومي التي فاقت مبلغ (22) مليار دينار وباب الدعم للسلع والمحروقات التي وصلت إلى (11.6) مليار دينار! وعلى الرغم من الزيادة الهائلة في حجم النفقات إلا أن قطاعات رئيسية مثل قطاعات الإسكان والكهرباء والمياه والنقل والمواصلات والاتصالات لم تشهد أي تطور بل زادت تردياً وتدهوراً. هذا من جانب النفقات العامة، أما من جانب الإيرادات فإن %93 من الإيرادات العامة لتمويل الميزانية هي إيرادات نفطية.
ومنذ منتصف العام 2013 أصيبت الإيرادات النفطية بانتكاسة كبيرة بسبب إغلاق موانئ وحقول النفط، حيث انخفضت الصادرات النفطية إلى أقل من(400) ألف برميل يومياً في وقت كانت ليبيا تُصدّر(1.700000) مليون وسبعمائة ألف برميل يومياً سنة 2010 إضافة إلى تهاوي أسعار النفط العالمية منذ يونيو 2014 والنتيجة عجز مالي كبير في الميزانية تم تمويله بالاقتراض من مصرف ليبيا المركزي .
كما أن الإيرادات غير النفطية (الضرائب والرسوم الجمركية ورسوم الخدمات والاتصالات وغيرها) شهدت هي الأخرى انخفاضا غير مسبوق في تاريخها وخصوصا الإيرادات الجمركية التي كانت من أهم الموارد المالية غير النفطية للاقتصاد الوطني في السابق، وعلى سبيل المثال وصلت الإيرادات غير النفطية في العام 2008 حوالى (8324.2 د.ل) أي ثماني مليارات وثلاثمائة وأربع وعشرون مليون ومئتي ألف دينار مع العلم أن باب المرتبات في تلك السنة لم يتجاوز (8) مليار دينار، بينما وصلت الإيرادات غير النفطية في العام 2015 حوالى (1.2) مليار ومئتي مليون دينار في وقت وصلت فيه فاتورة المرتبات لنفس العام أكثر من( 16.4) ستة عشر مليار وأربعمائة مليون دينار. وبهذا فإن السياسة المالية في ليبيا لا تتحمل مسؤولية تدني الإيرادات النفطية في الميزانية العامة فحسب، ولكنها تتحمل مسؤولية الفشل المزدوج في تدني الإيرادات غير النفطية من جهة، وعدم ترشيد النفقات العامة من جهة أخرى وبالتالي تتحمل كامل المسؤولية عن العجز المالي في الميزانية نتيجة سوء تقديراتها وعدم قدرتها على التعامل مع الأزمة، إضافة إلى استشراء الفساد في القطاع العام وانتشار ظاهرة التهرب الضريبي وتقاعس الجهات العامة عن دفع المستحقات، إضافة إلى المبالغة في الإنفاق التسييري وتقديرات خاطئة عن أسعار النفط كانت من أهم العوامل التي أدت الى الفشل في السياسة المالية.
وعطفا على ما سبق؛ يمكن القول إنه قد حان الوقت لاتخاذ قرارات جريئة لإصلاح تلك الاختلالات وعلى رأسها تعديل سعر الصرف للدينار مقابل الدولار الأمريكي بما يتناسب وحجم الموارد والإمكانيات التي تتمتع بها بلادنا من نفط وغاز وذهب، والعمل على تحويل البلد من مجرد دولة مستخرجة للنفط، إلى دولة منتجة ومصنعة له ولمنتجاته.
فلا شك بأن حجم الرصيد من العناصر المذكورة أعلاه، تكفي بأن يتم رفع سعر صرف الدينار مقابل الدولار، بما يعادل 2 دينار للدولار الواحد، وربما حتى دينار واحد مقابل دولار واحد، إن توافرت الإدارة والقيادة الحكيمة المتخصصة، (وحالة الدينار الأردني خير دليل)، فلكل 70 قرشا يعادلها دولار واحد، أي أن الدينار الأردني أقوى من الدولار الأمريكي، ما سيعكس قوة الدولار على الدينار الأردني، وبالتالي على الاقتصاد الأردني بطريقة إيجابية، حيث أن 70 قرشا أردنيا وهي ثابتة مقابل دولار أمريكي واحد، والدولار الأمريكي الواحد أصبح يساوي يورو اوروبي أو جنيه إسترليني أو ين ياباني أو يوان صيني أو أكثر، وبالتالي تزداد قوة الدينار الأردني مقابل العملات الأخرى بطريقة غير مباشرة عن طريق الدولار الأمريكي، حيث أصبح 70 قرشا أردنيا يساوي عملات أخرى أكثر، وهذا سينعكس على دولة الأردن والتاجر الأردني والمواطن الأردني بطريقة إيجابية، وبالتالي ستنخفض الأسعار وستنخفض معدلات التضخم في الأردن، بالرغم من أن حجم الاقتصاد الأردني أقل بكثير من حجم اقتصادنا، كذلك إذا ما قارنا أسعار صرف بعض العملات مقابل الدينار الليبي؛ فنجد أن 100 دينار ليبي تساوي 64 دينار تونسي، و375 جنيه مصري، و210 درهم مغربي، وهذه الدول حجم اقتصاد كل واحد منها لا يمثل شيء مقارنة بحجم اقتصادنا، لكن الفرق في الإدارة والقيادة لا غير!.
والخلاصة؛ يمكننا أن نقوم بتعديل سعر صرف الدينار الليبي مقابل الدولار بشكل يتماشى مع الواقع الفعلي لما تحتاجه بلادنا، وليس وفقا لما يحتاجه فئة مستفيدة من بقاء هذا الوضع على ما هو عليه من تأزم وتردي في مستوى معيشة المواطن وعوزه، وهذا ما يدعونا إلى ضرورة تطويع العلم مع الواقع وليس العكس، فالعلم وجد للحل وليس للتعقيد.
وأما بالنسبة للمتمسكين بضرورة التقيد عند تحديد سعر صرف الدينار مقابل الدولار، باعتماد نقاط حقوق السحب الخاصة، باعتبارها أساسا ملزما في ذلك، فنقول بأن حقوق السحب الخاصة أنشئت لتكون أصلا احتياطيا دوليا مكملا، في سياق نظام بريتون وودز لأسعار الصرف الثابتة، ومع انهيار نظام بريتون وودز في عام 1973، وتحوُّل العملات الرئيسية إلى نظم أسعار الصرف المعومة، قل الاعتماد على حقوق السحب الخاصة كأصل احتياطي عالمي، ومع ذلك، يمكن لتوزيعات حقوق السحب الخاصة أن تساهم بدور في توفير السيولة وتكملة الاحتياطيات الرسمية للبلدان الأعضاء، كما حدث في سياق الأزمة المالية العالمية، ويُستخدم حق السحب الخاص كوحدة حساب في الصندوق والمنظمات الدولية الأخرى، وحق السحب الخاص ليس عملة ولا استحقاقا على الصندوق، بل هو استحقاق محتمل على عملات البلدان الأعضاء القابلة للاستخدام الحر، ويمكن مبادلة حقوق السحب الخاصة بهذه العملات. ولعل ما قامت به الإدارة الأمريكية من تغيير قيمة الدولار بما يعادله من رصيد الذهب الذي تملكه، إلى إعادة تقييمه بقوته في ذاته كعملة أقوى دولة في العالم من حيث الاقتصاد، والتي لا تزال سارية حتى يومنا هذا.
والسؤال الذي يطرح نفسه؛ إلى متى سنبقى مرهونين بقوة وضعف الدولار الأمريكي؟ ومتى سنعتمد على أنفسنا ونعمل على تنمية قطاعاتنا؟ وهل سيصبح الدينار الليبي يوما ما عملة قادرة على الوقوف في وجه التحديات؟
إذ لا شك بأن انخفاض أو ارتفاع قوة الدولار الأمريكي تنعكس على قوة الدينار الليبي وتزيد من نسب التضخم في الاقتصاد، ففي الفترة القريبة الماضية، لمسنا ارتفاع أسعار السلع، بسبب حركة الدولار الأمريكي من جهة، وبسبب ارتفاع تكاليف الشحن من جهة أخرى، ويمكن توضيح ذلك من خلال ضرب مثال على الدولار الأمريكي مقابل اليورو الأوروبي، واليورو الأوروبي الذي يعتبر ثاني أكبر احتياطي عالمي بعد الدولار الأمريكي مباشرة، فقد لاحظنا أن الدولار الأمريكي في شهر مايو من عام 2021، كان الدولار الواحد يساوي أقل من يورو بمقدار 82 سنت من اليورو، ولكن ومع ارتفاع سعر صرف الدولار في الفترة الأخيرة، فإن الدولار الواحد أصبح يساوي الآن 88 سنت من اليورو. بمعنى آخر، الدولار الأمريكي زادت قوته، وهذا سينعكس بكل تأكيد على الدينار.
وللإجابة عن هذه الأسئلة نحتاج إلى تضافر الجهود ووضع خارطة طريق ونسب مستهدفة وسياسات عليا واضحة للعمل، وإلى ضرورة وجود قيادات وطنية ماهرة تتوافر فيهم مقومات ومتطلبات شغل الوظيفة طبقاً للمعايير التي تتطلبها هذه المهمة، وخاصة في وقت الأزمات.
وفي الختام؛ يمكننا القول بأن الأزمات المالية والكوارث الاقتصادية لا تأتي من فراغ أو وليدة مصادفة أو حالة عرضية، إنما هي نتيجة تراكمات من الفساد الإداري والمالي وسوء التخطيط وانعدام الرقابة الصارمة القائمة على وضع الأمور في نصابها، والمتمثلة في (الرقابة الإدارية والمالية والقضائية والتشريعية والفنية المتخصصة) باعتبارها مكملة لعمل بعضها البعض.