كيف يتم السيطرة على إيرادات النفط الليبي ؟ ( الخلطة السحرية )
عندما تم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في مارس 2021م؛ كان ذلك بناء على اتفاق سياسي وحوار يسرته بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بين أطراف النزاع القائم آنذاك، ونتج عنه وقف لإطلاق النار بين أطراف الحرب التي دارت سنة 2019، وتوحيد الحكومتين في شرق وغرب البلاد، وعرفت حكومة الوحدة الوطنية آنذاك بأنها حكومة مؤقتة مهمتها الأساسية هي قيادة البلاد للانتخابات! ولأن الحكومة المؤقتة قد حلت محل الحكومتين المتنازعتين؛ حكومة الوفاق الوطني بقيادة فائز السراج في غرب ليبيا والحكومة المؤقتة في شرقها برئاسة عبد الله الثني، فإنها ستكون مسؤولة –إضافة إلى مهمتها الأساسية وهي إقامة الانتخابات- عن توحيد المؤسسات المنقسمة وتحسين مستوى معيشة المواطن الليبي وتقديم الخدمات، حتى يتم استبدالها بحكومة دائمة.
ما ذكرناه منذ قليل هو التوصيف الدقيق لمصطلح حكومة تصريف الأعمال، ورغم قيام مجلس النواب بنزع الثقة من الحكومة وتشكيل حكومة جديدة في الشرق تعيد الانقسام مرة أخرى، ولكن دعنا نتجاهل هذه الحقيقة ونتصرف كأن حكومة الدبيبة مستمرة في عملها كيوم تأسيسها بدون منازع، وهي حتى في هذه الحالة لا تزيد عن كونها حكومة تصريف أعمال، حكومة مؤقتة تقود مرحلة مؤقتة وتمهد الطريق لحكومة دائمة تكتسب شرعيتها من الشعب لا من حوار سياسي نخبوي لا يعلم الشعب حتى شروط الدعوة للمشاركة فيه، وإذا تأسس هذا فإننا سنتساءل الآن؛ بأي وجه حق تقوم حكومة مؤقتة لتصريف الأعمال باتخاذ قرارات مصيرية وبنيوية وعقد اتفاقيات وترتيب التزامات من شأنها التأثير على مستقبل البلاد ومستقبل أبنائها لأجيال قادمة؟
الداعي لهذا السؤال هو مذكرة موجهة لمجلس النواب خرجت للعلن مؤخرا، هذه المذكرة وقعها ثمانية عشر خبيرا في مجال النفط، هم وزراء سابقون ورؤساء سابقون للمؤسسة الوطنية للنفط وللجانها وإداراتها الفنية، المذكرة تحذر مجلس النواب من خطورة مشروع قانون تزمع جهات حكومية على عرضه على مجلس النواب لإقراره، القانون يعيد تنظيم المؤسسة الوطنية للنفط ويمنحها اختصاصات جديدة وصلاحيات واسعة في مجالات لم تكن تملك حرية التحرك فيها، ويخرج المؤسسة من رقابة وزارة النفط ويضعها تحت ما يعرف بالمجلس الأعلى للطاقة المكون حديثا.
أسهب الخبراء في نقد القانون وبيان عواره من نواح قانونية وموضوعية وعملية، وبينوا أن مثل هذه الاقتراحات قد تكون جديرة بالدراسة في حال استقرار الأوضاع السياسية في البلاد تحت حكومة موحدة لا في حالة الانقسام السياسي، كما استغربوا عدم وجود حوار معمق تشارك فيه لجان فنية وقانونية ممثلة لمختلف مؤسسات الدولة حول القانون وجدواه ومزاياه وعيوبه قبل عرضه لنيل الثقة، وأنصح القارئ الكريم بقراءة المذكرة فليس هنا موضع طرحها بالتفصيل.
ما يهمنا في هذا المقال هو مناقشة أسباب قيام حكومة مؤقتة باتخاذ قرار مصيري وبنيوي يغير بنية واحدة من أهم مؤسسات الوطن، وينقلها من رقابة وزارة النفط إلى مجلس يرأسه رئيس الوزراء نفسه، ومن مؤسسة مهمتها –أو إحدى مهماتها- تحصيل أموال الشعب الناتجة عن بيع النفط والغاز ووضعها في حسابات تديرها الدولة، إلى شركة قابضة تستلم الأموال وتودعها في حسابات تديرها الشركة بعيدا عن رقابة الدولة.
تقول المذكرة إن مشروع القانون (مزمع عرضه على مجلس النواب)، دون الإشارة إلى من صدر عنه هذه الإزماع! من هو الذي يزمع عرض القانون على مجلس النواب؟ من المستحيل أن يكون عبد الحميد الدبيبة لأن مجلس النواب لم يعد يعترف بوجوده أصلا فكيف سيتعامل معه في أمر خطير ومحوري كهذا؟ هل يعقل أن يكون أسامة حماد رئيس الحكومة الموازية؟ ولكن لماذا يطلب حماد من مجلس النواب أن يعيد صياغة مؤسسة النفط ويحولها إلى شركة تحت إدارة مجلس الطاقة الذي يرأسه الدبيبة وهو خصمه؟
أسئلة قد توصف في أي بلاد في العالم بأنها عبثية لأن ما تشير إليه غير منطقي، ولكن ليس في بلد التناقضات، ففي ليبيا قد يجتمع ألذ الأعداء وأشد الخصوم ويتحولوا إلى حملان وديعة ما دام الاجتماع لتقاسم ثروة الشعب النائم والهائم وراء ترديد شعارات المبادئ وأهداف الثورات والانتفاضات.
يعلم الجميع أن وضع المؤسسة الوطنية للنفط الحالي هو نتيجة توافق بين معسكر العائلات المالكة في شرق ليبيا وغربها، وأن وضع فرحات بن قدارة رئيسا لمجلس إدارة المؤسسة هو نتيجة توافق بين المعسكرين بعد اجتماعات مكثفة احتضنتها ورعتها دولة الإمارات العربية المتحدة وجمعت صدام حفتر ممثلا لمعسكر الشرق، وإبراهيم الدبيبة –ابن عم عبدالحميد ومستشاره- ممثلا لمعسكر الغرب، وكان الضحية الأولى لهذا التوافق هو مصطفى صنع الله الرئيس السابق لمجلس إدارة المؤسسة، والنتيجة الأولى لهذا التوافق هو إنهاء (الاعتصام) في الموانئ النفطية في شرق ليبيا وإعادة تدفق النفط وبالتالي تدفق أموال النفط.
ويعلم الجميع أيضا أن الأمور لم تكن على ما يرام بين صنع الله الرئيس السابق للمؤسسة وبين محمد عون وزير النفط، وأن الأخير قد دعا في أكثر من مناسبة لعزل الأول والتحقيق معه واتهمه بعدة اتهامات ليس أقلها التجسس عليه، وأكثرها الخيانة وبيع مقدرات الوطن لجهات أجنبية، وبعد اعتماد صفقة تغيير صنع الله ببن قدارة بدا لوهلة أن الأمور تسير على ما يرام بين عون وبين خلف خصمه، ولكن شهر العسل بين الرجلين لم يدم طويلا، وسرعان ما بدت بوادر الخلاف تدب بين الرجلين بل بين المؤسستين (وزارة النفط والمؤسسة الوطنية للنفط) وآخرها في الصفقة التي تزمع المؤسسة – بموافقة الحكومة- إمضاءها مع ائتلاف شركات أجنبية لتطوير حقل الحمادة النفطي، وتمنح الاتفاقية مزايا كبيرة جدا للشركات الأجنبية على حساب الدولة الليبية، وهناك مذكرة موجهة لمجلس النواب حول هذه الاتفاقية أنصح القارئ بقراءتها أيضا فهي تلقي الضوء على خطورة الاتفاقية وكونها غير مسبوقة لجهة التنازل عن حق الدولة ومنحه لأطراف أجنبية.
ومع الأخذ في الاعتبار لكل المعطيات السابقة، من التوافق بين العائلات المالكة على إدارة مصدر الدخل الوحيد للدولة، إلى تأسيس مجلس مستحدث باسم مجلس الطاقة، إلى تحويل المؤسسة الوطنية للنفط من رقابة الوزارة ووزيرها المتشدد محمد عون إلى رقابة المجلس الجديد الذي يرأسه مصادفة رئيس الوزراء، فإنك لن تستغرق وقتا طويلا لإيصال النقاط ببعضها لتجد نفسك أمام خريطة لتقاسم ثروات البلد التي تمثل مستقبل أبنائك ووضعها على طاولة العائلات المالكة التي تظهر لك في الإعلام بالشعارات الاستهلاكية التي تعلم أنك تحب سماعها، بينما وراء الأبواب الموصدة وفي فنادق دبي وأبو ظبي هم متفقون تماما على استنزاف ثروات البلاد وتركها وتركك تبكي على اللبن المسكوب أو فلنقل على (النفط المخنوب).