في ليبيا فقط السماء تُمطر ( إجازات )
(بديت نحب الشتاء أكثر من الصيف) جملة بريئة قالتها لي ابنتي الصغيرة ببراءة عندما علمت أن يوم الأحد العاشر من ديسمبر سيكون عطلة رسمية بسبب تقلبات الأحوال الجوية كما أعلنت الحكومة، سألتها (علاش؟) فأجابت أنها أصبحت تفضل الشتاء لأنه موسم الأمطار، وعند هطول أمطار غزيرة (بيعطونا عطلة!!).
استذكرت الأمر واسترجعت ما حصل خلال السنوات القليلة الماضية، فكلما مر بالبلاد منخفض جوي إلا وتسمر الأطفال وفي أيديهم هواتفهم الذكية وهم ينتظرون أخبارا سارة تأتي من وزارة التعليم أو من مراقبة التعليم وأحيانا من الحكومة (بطوبتها) كما حدث هذه المرة؛ لتبشرهم بمنحهم يوما أو ربما يومين من الراحة (حرصا على سلامتهم!!!)، وتساءلت.. هذا يحدث في بلد الجفاف، فكيف بالبلاد التي تهطل فيها الأمطار الغزيرة باستمرار وعلى طول الموسم، هل يتمتع أطفالها وحتى كبارها بإجازات مع المنخفضات الجوية كما يحدث عندنا أم أن حياتهم تستمر في يوم المنخفض والذي يليه كالذي سبقه، ولماذا يختلف الأمر عندنا عن ما هو عندهم؟
تتمتع دول العالم حولنا بمرافق وبنية تحتية تسمح لها بالتعامل مع كميات أمطار أكثر بكثير مما تهطل في بلادنا، فلماذا تغرق بلادنا في كل عام ولمدة عقود مع كل منخفض جوي أو عاصفة متوسطية تمر بها؟
نستطيع أن نتوسع في الإجابة عن هذا السؤال لنقول إن من الأسباب في ذلك هو انهيار البنية التحتية وغياب الصيانات الدورية لمجاري التصريف وللطرق، وقلة الجسور إن لم يكن انعدامها في المدن الكبيرة والطرق الرئيسية، وكذلك غياب التخطيط السليم للمدن الذي أدى إلى تكدس المباني بصورة عشوائية في الأحياء السكنية القديمة التي بني بعضها في خمسينيات القرن الماضي، هذا التكدس الذي بقد ما هو مؤذ للعين فإنه يثقل كاهل البنية التحتية المتهالكة أصلا في تلك المناطق ويزيد من الازدحام المروري الذي لا يطاق أصلا في الظروف العادية فكيف يكون بعد أمطار غزيرة أكبر من قدرة مرافق المنطقة على التعامل معها؟ نستطيع كذلك أن نتهم الزيادة السكانية الكبيرة في المدن الكبيرة بعد هجرة عشرات الآلاف من مناطقهم وقراهم إلى المدن لعدة أسباب، منهم مهجر اضطر لترك منزله، ومنهم باحث عن عمل لن يجده في الضواحي فرحل للمدن المزدحمة أصلا بسكانها لتزداد ازدحاما، نستطيع أيضا أن نتهم أنفسنا لعدم اهتمامنا بمرافق بلادنا ونظافتها، فنحن الذين نرمي القمامة في الشوارع، ونرمي مخلفات البناء في كل مكان، ناهيك عن أكواب القهوة وقناني المياه الفارغة التي أصبحت من المعالم الشهيرة في بلادنا، نحن الذين نرمي هذه المخلفات في الشوارع لتحملها مياه الأمطار إلى أنابيب الصرف الصحي فتسدها ثم نلعن شركات النظافة والخدمات التي لم تسرح الأنابيب التي أغلقناها!!
نستطيع أن نمضي في تعداد الأسباب التي أدت إلى تهالك البنية التحتية في بلادنا، ونستطيع كذلك أن نتوقف عن هذا التعداد لنلخص الأمر في سببين رئيسيين وراء ذلك ووراء كل ما عانت منه البلاد وما ستعاني منه مستقبلا؛ الفساد وغياب المحاسبة.
على امتداد عقود من الزمن تفشت في ليبيا ثقافة الفساد، ومع غياب التشريعات الرادعة التي تعاقب عليه، أصبح أسلوب حياة بالنسبة للمسؤولين، كل من يأتي لشغل منصب لن يفكر إلا في طريقة الاستفادة من فترة شغله للمنصب، كيف سيثري من هذه الفترة وكيف سينفع أهله ومعارفه، ومع علمه بغياب المحاسبة، ومع وجود قوانين تشرعن الفساد، وأخرى فضفاضة يمكن استغلالها أو الالتفاف حولها؛ تحولت الوظيفة العامة إلى غنيمة عند المسؤول الليبي، يشغل منصبا لفترة من الزمن، يسرق أموال المشاريع، أو يختلس منها لتنجز ولكن بمواصفات تجعل تركها أفضل من إنجازها، يجمع ملايين الدينارات ثم يرحل أو ربما يبقى ليستمر في الجمع أو ربما ينقل إلى منصب آخر ليفتح بابا آخر من السرقات والفساد، وفي حال استيقظت أجهزة الدولة من سباتها المزمن وبصدفة كونية ما ألقي القبض عليه؛ فإنه سيحاكم وسيحكم عليه في أسوأ الظروف بالسجن لمدة ثلاث سنوات يكون قد أمضى نصفها في الحجز عند النطق بالحكم، فيخرج بعد فترة من السجن مليونيرا يقول له الناس يا حاج!!
هذا هو الحال في الوزارات والهيئات والمناصب العليا في الدولة، وفي ما دونها لا يختلف الأمر كثيرا، ما يختلف فقط هو كمية المسروق؛ فبينما يسرق الوزير الملايين، تقل القيمة كلما نزلنا درجة في سلم الوظيفة.
مع تفشي هذه الثقافة لا يمكن أن تنجز البلاد شيئا، ولو أنجزت فإنه لن يختلف كثيرا عن مشاريع عودة الحياة التي غرقت كل طرقها بدون استثناء مع أول فصل شتاء، والدليل الأوضح على ذلك هو الانهيار الذي حدث مؤخرا في طريق جامعة طرابلس، نفس الانهيار في نفس المكان يحدث باستمرار عاما بعد عام منذ عشرات السنين، تنهار الطريق، تتجند الشركات لإصلاحها، تصلح الطريق ويعاد افتتاحها، وربما يحضر رئيس الحكومة شخصيا لتدشين هذا الإنجاز، بعد مرور عام أو ربما أقل تنهار الطريق مرة أخرى في نفس المكان، وتسقط هذا المرة سيارة مواطن قاده سوء حظه وربما حسن حظه (حسب رئيس الحكومة) إلى الحفرة، يتم إخراج الرجل وسيارته ويأتي رئيس الحكومة ليزور المكان ويتصور مع الرجل (المنحوس أو المحظوظ) وقد يهديه سيارة! ثم تأتي شركات عودة الحياة لتصلح الحفرة وتعيد الحياة للطريق، ثم بعد عام يحدث ما لم يكن في الحسبان وما لم يتوقعه أحد؛ تنهار الطريق ونتصرف معها بنفس الطريقة كأن هذا الأمر لم يحدث منذ عام بل كل عام.
تقول الحكمة إن الغبي وحده من يكرر نفس الأمر بنفس الخطوات في كل مرة وينتظر نتائج مختلفة، قد تكون هذه الحكمة صحيحة في بلاد أخرى، ولكن ليبيا خرجت من هذه القاعدة، فتكرار نفس الأمر بنفس الخطوات وحصاد نفس النتائج في كل مرة أصبح من الذكاء، لأن إصلاح المشكلة إصلاحا محكما ومتقنا يعني القضاء عليها، والقضاء على المشكلة يعني إغلاق باب الاسترزاق منها! ومسؤولونا لا يريدون ذلك، فذلك ليس من مصلحتهم، فهم لا يريدون إصلاح التعليم لأن أبناءهم يدرسون في المدارس الخاصة وسيلتحقون بجامعات في الخارج، ولا يريدون إصلاح النظام الصحي لأنهم لا يترددون على المستشفيات والمستوصفات العامة، ولن يصلحوا الطرقات والمرافق العامة فمواكب الحماية التي تسبقهم لن تجعلهم يشعرون بمعاناتنا اليومية مع الزحام الخانق، ولن يتوقفوا عن سرقتنا لأننا لا نحاسبهم عليها.