من يرث صاحب الجيش ؟ ( إشتباكات العصية)
"أولئك الذين يتخلون عن الحرية من أجل الحصول على القليل من الأمن المؤقت، لا يستحقون الحرية ولا الأمن". بنجامين فرانكلين
تشهد مدينة بنغازي ثاني أكبر مدن ليبيا وأكثرها كثافة سكانية وحاضرة الشرق الليبي؛ منذ عدة أيام انقطاعا كاملا في الاتصالات والانترنت بدون سبب مقنع من الجهات المسؤولة، وبدون أي تصريح من الحكومة المكلفة من مجلس النواب في شرق ليبيا والتي تتخذ من بنغازي مقرا لها.
الشركة القابضة للاتصالات قالت إن السبب هو قطع في كابل الألياف البصرية في أكثر من مسار، دون أن تذكر ما إذا كان هذا القطع عرضيا أم بفعل فاعل ، كثير يتهمون الحفريات العشوائية بقطع كوابل الاتصالات، ولكن هل تتغذى كل بنغازي من كابل واحد حتى إذا قطع فصلت عن العالم تماما؟ وهل يحتاج هذا الكابل الواحد كل هذا الوقت (أكثر من ثلاثة أيام حتى كتابة هذا المقال) لإصلاحه؟
الحقيقة التي يعلمها الجميع ولا أحد يريد ذكرها –ويؤيدها الصمت المطبق لحكومة مجلس النواب – هي أن القوات العسكرية المسيطرة على الشرق الليبي –قوات حفتر- قطعت الاتصالات منذ ليل الجمعة لتنفيذ عملية عسكرية ضد من سمتها خلية عسكرية متسللة!
من هي هذه الخلية العسكرية المتسللة وكيف وصلت لحي السلماني في بنغازي؟ وكم عددها وعتادها حتى احتاج (الجيش) إلى خوض اشتباكات مسلحة لعدة أيام معها قبل إعلان السيطرة عليها وعلى المنطقة؟ ولماذا يحتاج الجيش لقطع الاتصالات حتى يخوض حربا ضد خلية متسللة؟ ما الذي يخشى من خروجه للعلن وتسربه للإعلام؟
هذه الخلية المزعومة هي في الحقيقة مجموعة من المرافقين العسكريين للعقيد المهدي البرغثي، القيادي السابق في عملية الكرامة ووزير الدفاع السابق في حكومة الوفاق الوطني.
ولكن كيف وصل البرغثي ومجموعته المسلحة إلى بنغازي، وإذا كان مطلوبا فكيف له أن يتحرك ويقطع كل المسافة من طرابلس إلى بنغازي دون أن تستوقفه أي من وحدات (الجيش) والتي تسطير على المنطقة الممتدة من سرت شرقا وحتى الحدود مع مصر، كيف لمجموعة مسلحة قادرة على خوض اشتباكات مسلحة لمدة يومين أن تتسلل من طرابلس إلى بنغازي دون أن ترصد؟
قبل محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات نسأل أولا من هو المهدي البرغثي؟ وكيف خرج من بنغازي وكيف عاد إليها؟
المهدي البرغثي هو عسكري سابق برتبة عقيد، كان لهو دور في أحداث ثورة 17 فبراير 2011، وتولى بعدها إمرة كتيبة مهمة في بنغازي قبل أن يعلن في 2014 انضمامه للعملية العسكرية التي أطلقها حفتر في بنغازي "عملية الكرامة".
في سنة 2016 قبل البرغثي تسميته وزيرا للدفاع في حكومة الوفاق الوطني آنذاك وأعلن في بيان له توجهه إلى طرابلس لاستلام منصبه، ليتعرض بعدها بأيام قليلة لمحاولة اغتيال استهدفته بسيارة مفخخة أثناء خروجه من مقر كتيبته في بنغازي ، وعلى إثر قبول البرغثي بالمنصب وانتقاله إلى طرابلس لتوليه وزارة الدفاع، اتهمته قيادة حفتر بالمسؤولية عن العديد من الوقائع والأحداث، من بينها هجوم مسلح على قاعدة براك الشاطئ في عام 2017، الذي راح ضحيته 145 عسكرياً، على الرغم من إعلان تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" مسؤوليته عن الهجوم، وعلى الرغم من النفي المستمر من قبل البرغثي لأي علاقة بالهجوم على قوات حفتر في قاعدة براك الشاطئ؛ إلا أن رئيس حكومة الوفاق الوطني فائز السراج أصدر في سنة 2018 قرارا بإقالة البرغثي.
في ذلك الوقت رأى كثيرون قرار إقالة البرغثي بأنه محاولة من السراج للتقارب مع حفتر الذي يتهم البرغثي بالهجوم على قواته في الجنوب، أي أن السراج طرد البرغثي لأنه هاجم حفتر الذي حشد قواته وهجم على السراج في طرابلس بعد ذلك بعام واحد!
بعد إقالته وخفوت نجمه؛ ظل البرغثي في طرابلس لمدة خمس سنوات دون أي دور يذكر في الأحداث باستثناء مشاركته –والقوة العسكرية- المرافقة له في صد العدوان على طرابلس عام 2019.
فجأة وبدون سابق إنذار عاد البرغثي إلى بنغازي، مساء الجمعة، بعد مشاورات واتصالات واسعة من شخصيات قبلية في شرق ليبيا مع قيادة حفتر، التي وعدت بعدم المساس به وبأنه لم يعد مطلوباً لديها، لكنها وجهت له استدعاءً بالمثول أمام أحد الأجهزة الأمنية التابعة لها إثر وصوله إلى منزله بحيّ السلماني.
هذه السردية التي يتبناها الموالون للبرغثي، أما قوات حفتر التي اشتبكت معهم فتقول إن خلية متسللة تمكنت من الدخول والتمركز في حي السلماني للقيام بعمليات لزعزعة الأمن والاستقرار، ما اضطرها لخوض عملية عسكرية ضدها بعد رفضها الاستسلام.
وبسبب انقطاع الاتصالات والانترنت فإن المعلومات شحيحة عما يدور على الأرض في بنغازي، وكل ما يتداول من أنصار أي طرف في الاشتباكات لا يمكن الوثوق به ولا اعتباره إلا في إطار الدعاية لذلك الطرف؛ ولكن المؤكد أن قوات حفتر ستنتصر في هذه المعركة وستقصي خصمها وتضطره للفرار أو تقبض عليه وربما تقتله، ولكن هذا لن يجيب على الأسئلة التي أوردناها في بدء مقالنا:
لماذا تقطع الاتصالات عن كامل بنغازي؟ ولماذا يقبل الناس بذلك؟ لماذا يضحون بحقوقهم الأصيلة؟
في فلسطين يخوض اليهود مع أبناء غزة معركة وجود ولم يقطعوا عنها الاتصالات، لماذا يقطع أبناء جلدتنا عنا التواصل مع العالم للقيام بعملية عسكرية يفترض أنها بسيطة؟ ويفترض –حسب سرديتهم- أنها لصالحنا ولحمايتنا.
لا تفسير لذلك إلا إحساس المستبد الحاكم في شرق ليبيا أنه بلغ من القوة ما يؤهله للقيام بأكثر من ذلك ولن يناله إلا ثناء الناس على حكمته وشجاعته وقوته في الدفاع عنهم من هذه الخلية التخريبية التي تستهدف أمنهم واستقرارهم ، ولعل لسان حالهم يقول؛ لنضحي بالقليل من حقوقنا وحرياتنا من أجل أن نعيش في أمان، والذي يمارس القمع اليوم على خصومهم لن يقمعنا فنحن نسير بالمثل القائل (أخطى راسي وقص) و(طبس تخطاك) و(اللي ما يدير شي ما يجيه شي).
نأتي للتساؤلات المحيطة بالعودة الغريبة والمفاجئة للمهدي البرغثي إلى بنغازي بعد ست سنوات قضاها في طرابلس معارضا لحفتر ومناوئا له.
تقول المصادر المقربة من المهدي البرغثي ومن الموالين له –الذين قضى بعض منهم نحبه في الاشتباكات- إن البرغثي عاد إلى بنغازي بعد تنسيق عالي المستوى مع قيادة قوات حفتر ووعود بمنحه الأمان وعدم المساس به أو بأي من مرافقيه، بينما تقول المصادر المقربة من قوات حفتر التي هاجمت البرغثي واشتبكت معه (كتيبة طارق بن زياد)؛ إن الأخير تسلل إلى بنغازي خلسة وتمكن من الدخول بخليته المسلحة إلى السلماني بنية زعزعة الأمن؛ وإنهم حاولوا في البداية استدعاءه للمثول أمام تحقيق روتيني للإجابة عن تساؤلات وتحفظات أمنية لا أكثر؛ وإن رفضه الامتثال للتحقيق هو ما أدى إلى اندلاع الاشتباكات.
بتجرد وبحيادية تامة لا أستطيع تقبل السردية التي قدمتها كتيبة طارق بن زياد لعدة أسباب؛ أولها استحالة أن يعود البرغثي من تلقاء نفسه لقيادة خلية أمنية تزعزع الأمن في بنغازي مع ما فيها من قوات عسكرية مدربة ومدججة بكل أنواع الأسلحة وتدين بولاء مطلق لخليفة حفتر وأبنائه فقط لا غير، ولو فكر البرغثي في مثل هذه الخطوة ألن يكون من الأجدر والأجدى أن يرسل هؤلاء المقاتلين في مجموعات متفرقة ويبقى هو في مكان آمن لقيادة العمليات؟ لماذا يخاطر بنفسه في عملية محفوفة بالمخاطر وغير مضمونة العواقب؟
كذلك فإن الطريق عبر البر من طرابلس إلى بنغازي ستمر في منتصفها (سرت) بقوات حفتر التي تسيطر على كل مناطق الشرق الليبي، وكيف ستعبر هذه القوة المسافة بين سرت وبنغازي التي تقدر بحوالي 570 كيلو مترا دون أن يتم استيقافها أو حتى الشك فيها لغاية وصولها واستقرارها بحي السلماني وسط بنغازي.
باستبعاد سردية قوات حفتر وفرضية التسلل تبقى فقط سردية المهدي البرغثي وأنصاره، وهي التنسيق على أعلى المستويات مع قوات حفتر.
وهذا سيستدعي سؤالا حتميا؛ لماذا تظهر قوات حفتر نفسها بمظهر الغادر الذي ينكث عهده؟ لماذا تعط الأمان للبرغثي ثم تنقلب عليه؟ افتراض أنها خدعة للتخلص منه لن يصمد أمام التحليل الموضوعي، فالمحافظة على المصداقية والظهور بمظهر القيادة المتزنة التي يمكن الوثوق بها أولى وأهم من إقصاء خصم ضعيف لا يمثل أي خطورة؛ فما هو التهديد الذي يمثله المهدي البرغثي من محل إقامته في طرابلس حتى تضطر قوات حفتر للظهور بمظهر الخيانة وتستدرجه لتقتله، وكيف يمكن لأي عاقل الوثوق بها بعد ذلك.
استبعاد كل هذه الفرضيات لا يبقي إلا فرضية واحدة يتم تداولها في الشارع الليبي منذ فترة ليست بالقصيرة وتغذيها شائعات بين الحين والآخر وآخرها اشتباكات السلماني.
تقول هذه الفرضية إن خلافا بدأ يدب بين أبناء حفتر حول من يرثه في حكم شرق ليبيا ومن يرث مسعاه في حكم البلاد (عبر الدبابات أو عبر الانتخابات)، وإن هذا الخلاف قد تمثل في معسكرين اثنين؛ صدام والصديق من جهة، وبلقاسم وخالد في الجهة الأخرى، وتقول الفرضية إن أبرز نتائج هذا الخلاف كانت ظهور الحكومة الموازية في شرق ليبيا والتي دعمها بقوة معسكر (بلقاسم وخالد) بينما تمسك معسكر (الصديق وصدام) بحكومة الدبيبة التي توافق معها المعسكر الأخير في عدة ملفات والتي نالت بعضا من حرية الحركة في شرق ليبيا بعد اجتماعات صدام حفتر وإبراهيم الدبيبة في دبي، وكانت ماضية في عقد المزيد من التوافقات والتفاهمات مع معسكر حفتر قبل أن تقطع عليها الطريق ضربة موجعة من حلفاء بلقاسم حفتر في مجلس النواب بمنح الثقة لحكومة باشاغا سابقا وحماد حاليا.
تقول الفرضية أيضا إن البرغثي قد عاد بتنسيق مع بلقاسم حفتر الذي يسعى بهذه الخطوة وخطوات مشابهة قادمة لإضعاف سيطرة شقيقه صدام وكتيبته طارق بن زياد على بنغازي، لكن الأخير قام بضربة استباقية أقصى بها البرغثي وقضى على أي أمل لشقيقه في عقد مصالحة مع أي جهة قد تشكل خطرا على سيطرته المطلقة على بنغازي.
عاد البرغثي إلى بنغازي، وخاض حربا أخيرة فيها وهزم، ربما قتل أو أسر أو تمكن من الفرار؛ ربما عاد متسللا ليزعزع الأمن أو عاد بتنسيق مع قوات حفتر، ربما انقلبت عليه قوات حفتر غباء لتظهر بمظهر الغادر أو أن صدام تغدى بحليف شقيقه قبل أن يتعشى به، كل هذه الاحتمالات والفرضيات والسرديات قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة، ولكن ما هو صحيح قطعا أن بنغازي عاشت لعدة أيام بلا اتصالات ولا انترنت، بدون ذكر أسباب مقنعة وبدون عودة الاتصالات، سواء قطع صدام حفتر الاتصالات ليتمكن من خوض حربه بهدوء أو أنه استفاد من هذا الانقطاع العرضي.
إن صمت الناس وقبولهم للتفريط في حقوقهم بدون إنكار لن يفضي إلا إلى مزيد القمع والاستبداد، خاصة أن قطع الاتصال قد تكرر للمرة الثانية في أقل من شهر، فقد قطعت الاتصالات بالكامل عن درنة المنكوبة بعد يوم واحد من مظاهرات حاشدة طالبت بإسقاط البرلمان والحكومة الموازية وبتوحيد البلاد وإقامة الانتخابات، وبعد قطع الاتصالات عن درنة نفذت الجهات الأمنية حملة اعتقالات واسعة طالت نشطاء من قادة الحراك في المدينة ومن الذي انتقدوا علانية حفتر وقواته وحلفائه في مجلس النواب.
مهما كان موقفك من اشتباكات السلماني، وسواء كنت مؤيدا لأحد طرفيها أو محايدا، فسكوتك عن انتهاك حقك بقطع الاتصالات عنك لن يؤدي إلا لمزيد الانتهاكات، إذا لم تستطع أن تعبر عن رفضك فأقل شيء تفعله هو ألا تعبر عن رضاك، وإذا لم تستطع أن تقول الحق فلا تصفق للباطل.