تشاد تقصف ( التراب الحامي )
يوم الأربعاء الموافق 16 أغسطس 2023 تناقلت وكالات الأنباء العالمية أخبارا مفادها قيام طائرات حربية تشادية باختراق الأجواء الليبية وقصف معسكرات للمعارضة التشادية داخل الأراضي الليبية.
لم تشر حينها وكالات الأنباء إلى موقع معسكرات المعارضة تحديدا على الأراضي الليبية ولم تؤكد أو تنف وقوع إصابات بشرية، ولكنها أشارت إلى تساؤل إعلامي دولي عن جنسية الطائرات المهاجمة، وهل هي حقا تشادية أم هي طائرات فرنسية تسعى للإيقاع بخصوم الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي لتجنبه –كونه حليفا لها- مصيرا مشابها لمصير رئيس النيجر محمد بازوم الذي انقلب عليه جيشه بتهمة الولاء لفرنسا.
وكالات الأنباء التي تناقلت الخبر نقلت عن مصادرها في الجيش التشادي أن الأخير نشر قواته على الحدود مع ليبيا تحسبا لأي محاولة اختراق من قوات المعارضة التشادية التي تتخذ من جنوب ليبيا ملعبا خلفيا لها دون حسيب أو رقيب.
وبعد ذلك بيومين؛ أي يوم الجمعة 18 أغسطس 2023 أعلنت جبهة المعارضة التشادية المسلحة المعروفة باسم (الوفاق من أجل التغيير) واختصارا بـ ” فاكت” إنهاء وقف إطلاق النار مع الجيش التشادي النظامي الموقع في أبريل 2021.
وقالت الجبهة المعارضة إن هذا الإعلان يأتي على خلفية القصف الجوي للمجلس العسكري الحاكم التشادي للقاعدة الخلفية للجبهة مخلفا أربعة قتلى وثلاث إصابات دون تحديد لمكان وتاريخ القصف.
جبهة فاكت تقصد بالقاعدة الخلفية لقواتها؛ الأراضي الليبية.
ولم يكتف بيان الجبهة بتأكيد القصف التشادي لقواعدها في ليبيا، بل إنه أكد وجود استعدادات مكثفة من القوات المسلحة التشادية لعملية عسكرية برية داخل الأراضي الليبية.
كل هذه الأحداث تحدث في جنوب ليبيا، قصف جوي لمعسكرات معارضة، وتهديد بالرد، ونشر قوات على الحدود وتلويح باقتحامها لتنفيذ عملية برية، كل هذا في ليبيا ولا يذكر اسم ليبيا إلى عند تحديد موقع الغارة أو مكان العملية البرية المحتملة، ليبيا لم تنف وجود (قاعدة خلفية) للمعارضة التشادية على أراضيها، ليبيا لم ترفض الغارة الجوية التشادية أو الفرنسية على أراضيها، ليبيا لم تستنكر خرق سيادتها الوطنية بخرق أجوائها، ليبيا لم ترد على التلويح باقتحام أراضيها لتنفيذ عملية برية داخلها، في هذه اللعبة ليبيا فقط هي الملعب، واللاعبون إما تشاديون أو حلفاؤهم.
لماذا لم يصدر أي بيان عن حكومة الوحدة الوطنية؟ لماذا لم تنف أو ترفض أو تندد؟ ألا تعتبر أجواء الجنوب وأراضيه جزءا من إقليم دولتها فتدافع عن سيادته؟
الحكومة لم ترد حتى على ما نشره موقع الجزيرة نت يوم 19 أغسطس نقلا عن ما سماه مصدرا في الرئاسة التشادية؛ حيث ذكر الموقع بوضوح –نقلا عن المصدر- أن القصف تم "بموافقة الحكومة الليبية".
هل حقا وافقت الحكومة على العملية الجوية؟ لو أنها وافقت فهل كان ذلك نكاية في المعارضة التشادية التي قاتلت مع أحد أطراف الصراع الليبي وخاصة في الحرب على طرابلس في 2019 و 2020؟ وفي حال موافقتها على غارات جوية هل ستوافق على عملية برية أيضا؟
في نفس اليوم الذي أعلنت فيه جبهة المعارضة التشادية قصف قواعدها في ليبيا وهددت بالرد، أدانت وزارة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية الليبية حرق أحد المتطرفين اليمينيين نسخة من القرآن الكريم أمام سفارتها لدى الدنمارك.
وقالت الوزارة في بيان نشر عبر حسابها على فيسبوك إنها "تدين بأقصى العبارات وتعبر عن رفضها بشكل قاطع حرق أحد المتطرفين نسخة من القرآن الكريم أمام مقر سفارتها لدى المملكة الدنماركية"، وحمّلت سلطات الدنمارك "المسؤولية السياسية لإضرارها بالعلاقات بين البلدين والسماح باستفزاز الشعب الليبي وكافة المسلمين حول العالم عبر استمرار تجاهلها لجرائم الكراهية والتحريض التي يقوم بها متطرفون إرهابيون بغرض الإساءة للدين الإسلامي والمسلمين". وأكدت أن ليبيا "لا يمكن لها القبول بادعاءات أن هذا العمل الجبان يعد من ضمن أدوات التعبير عن الرأي".
نشد على يد الوزارة ووزيرتها، ونؤيد بشدة بيانها، بل وندعوها لأكثر من ذلك، سحب سفيرها من كوبنهاجن وطرد السفير الدنماركي إن وجد والتلويح بقطع العلاقات، ولكن كما كان بيان الوزارة سريعا على أمر حدث في أقصى شمال أوروبا، لماذا لم يصدر بيان سريع حول ما يحدث في أقصى جنوب ليبيا، في الحقيقة لا يوجد بيان أصلا فضلا عن أن يكون سريعا، ألا تعتبر الوزارة ما حدث في جنوب ليبيا اعتداء على السيادة الليبية واستفزازا لمشاعر الليبيين؟
هل يقصد المصدر الذي نقلت عنه الجزيرة نت حكومة شرق ليبيا المنبثقة عن مجلس النواب؟ هي الأخرى لم يسمع لها صوت، ومجلس النواب الذي أنشأها لم يندد بالغارة الجوية وبالتلويح بالغزو البري رغم أنه عودنا ببياناته الرنانة عن انتهاك السيادة الوطنية والجهاد في سبيل الله وقمع العصملي و(نوضن يا أوجاع الوطن انباع) كلما رست سفينة تركية في أحد موانئ غرب البلاد، معارضة تشاد أقامت معسكرات خلفية في جنوب البلاد وجيش تشاد قصفها! ألا يستلزم ذلك بيانا رنانا يوقظ الأوجاع، أم أن (السيادة تحضر وتغيب) شأنها شأن أشياء أخرى.
المجلس الرئاسي الذي لا أظن أنه اجتمع بكل أعضائه منذ تأسيسه حيث أنه ما يلبث أن يعود أحدهم من رحلة خارج البلاد إلا ويسافر آخر بحثا عن حل للمشكلة الليبية! لم يصدر المجلس أي بيان عن الحدث وكأنه لم يحدث، حتى نائب رئيس المجلس الممثل للجنوب؛ موسى الكوني الذي عاد لتوه من رحلة لتشاد لم يعلق على الحدث، بحثنا في صفحات المجلس عن بيان عن ما يحدث في جنوب ليبيا من قصف وتلويح بالغزو ولكننا لم نجد، وعوضا عن ذلك وجدنا بيانا عن مكالمة بين موسى الكوني ورئيس النيجر(المنقلب عليه) محمد بازوم يؤكد فيها الكوني حرصه على سلامة النيجر واستقراره ورفضه لانجرار المنطقة للحرب، ولكن ماذا عن جنوب ليبيا.
قوات المعارضة التشادية المتمركزة في جنوب ليبيا كانت قد شاركت كمرتزقة في معظم الاشتباكات التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة، مشاركتها كانت –ولا أفشي سرا هنا- لصالح ما يعرف بقوات القيادة العامة بقيادة خليفة حفتر، ولكن حفتر وقيادته لم يعلقوا على الحدث ولم ينفوا وجود التشاديين في الجنوب –الذي تحكمه بحكم الأمر الواقع قوات حفتر- ولم يعبروا عن رفضهم للغارات.
في المقابل نشرت وكالات أنباء عن مصادرها في قوات حفتر قيام الأخيرة باستنفار عسكري واستعداد لنشر قوات على الحدود مع تشاد، وهذا يثير التساؤل: هل تقوم بذلك دعما لقوات المعارضة التشادية أم ضدها؟ خاصة بالعودة إلى ما نقلته الجزيرة نت عن مصادرها بالرئاسة التشادية أن القصف تم بموافقة الحكومة الليبية! هل يقصد المصدر حكومة أسامة حماد التي تحظى بحماية ودعم من حفتر الذي تسيطر قواته على الجنوب؟
يوم السبت 19 أغسطس 2023 وفي مؤتمر صحفي عقده في مقره بطرابلس؛ قال محمد الحداد، رئيس الأركان العامة بالمنطقة الغربية إن هناك مجموعة مشتركة من القوات المسلحة في الشرق والغرب يجري تشكيلها لحماية الحدود الجنوبية ومنشآت النفط وطرد المرتزقة الأجانب.
وأضاف الحداد أنه تم الاتفاق على تشكيل قوة مشتركة لحماية حدودنا الجنوبية وتأمين مؤسساتنا العسكرية ونفطنا، والعمل معا لطرد جميع المرتزقة الأجانب الذين دخلوا دون اتفاقات مع الدولة الليبية.
هل هذه الأحداث مرتبطة؟ هل هناك عملية مشتركة بين ليبيا (شرقا وغربا) وتشاد للقضاء على المعارضة التشادية المتمركزة في ليبيا؟
الصمت الرسمي حيال الأحداث التي وقعت في الجنوب الليبي الأيام الماضية يوحي بأن أمرا ما يحدث ولا أحد يريد إطلاعنا –المواطنين الليبيين- فلا نملك مع هذا التعتيم إلا التساؤل: إذا توغلت قوات تشادية في الأراضي الليبية الشاسعة للقضاء على قوات المعارضة ونجحت في ذلك؛ ما الذي يضمن مغادرتها؟ ماذا لو قررت البقاء لحماية (قواعدها الخلفية)؟ في حال وجدت العملية المشتركة ونجحت في إبعاد المرتزقة التشاديين؛ ماذا عن غيرهم من المرتزقة؟ ماذا عن مجموعات فاجنر الأقوى والأخطر والأشد تنظيما وثقلا عسكريا وسياسيا؟ من يطرد هؤلاء؟ في حال بقائهم وهو المرجح؛ ماذا لو قررت فرنسا نقل وجودها العسكري من شمال النيجر – الذي يبدو أنها ستطرد منه- إلى جنوب ليبيا القريب، وستكون حجتها مواجهة نفوذ مجموعات فاجنر، في حال حدوث عملية عسكرية بمشاركة تشادية في جنوب ليبيا فإن فرنسا –الحليف الأقرب للحكومة التشادية- ستشارك لا محالة، وفي حال مشاركتها ستحتاج قاعدة للدعم الفني واللوجستي، ألن تكون قاعدة الويغ العسكرية أفضل مرشح لاستضافة هذه القاعدة المحتملة؟ لو حدث ذلك؛ من يخرجها من القاعدة بعد انتهاء العملية؟ ألن نصبح بذلك كالمستجير من الرمضاء بالنار؟ نريد إبعاد قوات المعارضة التشادية فنحصل عوضا عنها على قوات نظامية تشادية وفرنسية!
تثير الأحداث كما كبيرا من الأسئلة، وتستفز كما أكبر من الإجابات، معظمها بعيد عن الصواب لاعتماده على التحليلات الظنية بدلا عن المعلومات المؤكدة، ولكن المؤكد أننا نبحث عن حلول تلفيقية لمشاكل صنعناها بأيدينا، واستعصت حلولها علينا، فصرنا نبحث عن حلول في كل مكان إلا في المكان الوحيد الذي يكمن فيه الحل، مصالحة شاملة قائمة على التنازلات المؤلمة من كل الأطراف، دستور وقانون وانتخابات تفرز حكومة متفق عليها وجيشا بتفويض وطني ودعم شعبي ينهي كل مظاهر الفوضى داخل البلاد وعلى حدودها، يعيد هيبتها ويحمي سيادتها، فكما يقول الشاعر:
ما حك جلدك مثل ظفرك ***** فتول أنت جميع أمرك