موسم الهجرة إلى الشرق (هل قفز باشاغا في الهواء؟)
في ليلة من ليالي هذه الأرض المكلومة، ذكر لي إحدى الشخصيات التي تعتبر حالة من الحالات النادرة التي مرت علينا خلال المئة عام الماضية، أن هناك فرقاً بين السياسي وبين الموظف بدرجة وزير أو رئيس وزراء أو حتى رئيس دولة، حيث السياسي يملك مشروعاً ورؤية لا يحددها المنصب الإداري، بينما الثاني هو فقط موظف يرتدي عباءة سياسية، وللأسف هذه العباءة مهترئة جدا، والناس كلهم ترى أنها مهترئة إلا هو يراها عباءة جميلة!
خلال الأشهر الماضية من تاريخ شعبنا العظيم، خرج السيد فتحي باشاغا وزير الداخلية السابق في حكومة الوفاق الوطني بقيادة فائز السراج وأحد أعضاء قائمة عقيلة صالح في منتدى الحوار السياسي الذي أنتج حكومة الوحدة الوطنية المعروفة بشعار (عودة الحياة!) بمبادرة مفادها تأسيس حكومة توحد من خلالها الشرق والغرب عن طريق فتح حوار مع الجنرال خليفة حفتر (صاحب الجيش) والرجل القوي في المنطقة الشرقية والجنوبية، وقد لاقت هذه المبادرة اهتماماً كبيراً من (مجلس نواب عقيلة صالح) حيث قام الأخير بسحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبد الحميد الدبيبة بعد أشهر قليلة من منحها الثقة من مجلس النواب نفسه.
هذه المساحة أعطت لمبادرة رجل الغرب القوي (هكذا كان يُقدم نفسه) السيد باشاغا زخم رسمي ودولي وشعبي نسبياً، وكان اللقاء الذي أجراه فتحي باشاغا والجنرال خليفة حفتر في بنغازي هو بداية الإعلان على الجهد المشترك بينهما في توحيد السلطة التنفيذية (رغم أنهم كانو قبل سنة يتراشقون بالسلاح والجثث )
تحصل رجل الغرب القوي (في ذلك الوقت) ثقة مجلس النواب لتشكيل حكومته التي تحصل فيها الجنرال حفتر وعقيلة صالح على نصيب الأسد، وبعد محاولات من السيد باشاغا للدخول إلى طرابلس وفشله في ذلك، رغم التحالفات الكبيرة التي حدثت مع العديد من التشكيلات المسلحة في طرابلس، إلا أنه لم يتمكن من الدخول للعاصمة، حيث كانت مسألة دخوله إلى طرابلس هي حجر الأساس في الاتفاق الذي أبرم مع مجلس نواب عقيلة، وقبة الرجمة.
لا ينكر أحد أن مبادرة باشاغا كانت شُجاعة، خاصة في الوقت التي أطلقت فيه، حيث بصفته أحد قادة مصراتة العسكريين والسياسيين وقائد الحرب الأخيرة ضد هجوم الجنرال حفتر، وفي سياق أن مصراتة من المدن التي قدمت العديد من الشباب في هذه الحرب، بالتالي مسألة التحالف مع الجنرال حفتر مسألة لم تكن لتمر بالساهل، وقد نجح باشاغا في تمرير هذه الخطوة باعتبارها نقطة انطلاق لتوحيد البلد، وأن الحرب لن تستمر إلى الأبد، وكون أن الحرب ليست غاية في ذاتها، بل تعتبر إحدى أدوات السياسة، ومن متطلبات السياسة معرفة متى تُقاتل، ومتى تعقد الصفقات، هكذا يُقدم مريدي السيد باشاغا وجهة نظره.
في الوقت نفسه خرجت العديد من الأصوات المخالفة لمبادرة باشاغا، حيث رغم حصوله على مباركة محمد صوان ودعمه (رئيس الحزب الديمقراطي) ودعم أغلب قادة التشكيلات المسلحة في مصراتة، إلا أن هناك أطرافاً وقفت ضد هذه المبادرة، وعلى رأسهم تيار مفتي الديار الليبية، الذي رأى في مبادرة باشاغا فرصة للجنرال حفتر لتعويض هزيمته على أسوار العاصمة، وأن لا اتفاق مع حفتر نهائيا، باقي التيارات والأطراف السياسية في ليبيا انقسمت بين من يؤيد ومن يعارض، وهناك طيف قرر أن لا يشارك في هذه الحالة، ولا يكون له موقف واضح، ويبدوا أن هذا التيار هو الرابح الأكبر.
تمسك باشاغا بأحقيته برئاسة الحكومة، وانطلق في العمل من داخل المناطق المُسيطر عليها من الرجمة على رأسها، سرت وبنغازي، وحاول أن يسحب البساط من تحت حكومة الدبيبة، وحاول إقناع المجتمع الغربي، تركيا – بريطانيا – فرنسا – أمريكا، إلا أن الكل يبدو أنهم تعاملوا معه بنفس منطق قبة الرجمة ومجلس نواب عقيلة صالح وهي (إن دخلت طرابلس سنعترف بك )
استنزف باشاغا كل بطاقاته السياسية، لم يبخل بأي جهد، وحاول استغلال كل حدث ممكن أن يُقدم نفسه من خلاله لليبيين على أنه خيار أفضل من الدبيبات، إلا أنه لم ينجح في نهاية المطاف، ويبدو أنه قرر أن يعود إلى مسقط رأسه وحاضنته الاجتماعية، ونقطة انطلاقه
الكل يُجمع أن باشاغا لم يعد بمثل ما ذهب به من زخم في رحلته إلى الشرق، وقد خسر جزء لا يستطيع أحد أن يٌحدده من شعبيته في المنطقة الغربية، قرر حاليا أن يختفي، وربما من نصحه بذلك قد أصدقه النُصح، لأنه يعلم جيدا أن الليبيين ينسون بنفس سرعة تذكرهم!
هناك مثل ليبيا يقول (إن المتغطي بالأيام عريان) ونحن نقول (المتغطي بالعسكر عريان)، إن التجارب جميعها التي مرت بها منطقتنا، والتي كان للعسكر فيها دور سياسي، انتهت باحتكارهم للسلطة وانقلابهم على كل شركائهم، وفتح سجون جديدة، وتربع البدلة العسكرية على حساب حق الناس في الحلم، وما سيناريو السودان الجريح عنكم ببعيد
لنتذكر ذلك جيدا كلما رأينا بياناً صحفياً، يقول من خلال شخص يرتدي بدلة أنيقة، إنه يريد التحالف مع عسكري لمصلحتنا، كلما رأيتم ذلك تذكروا (قفزة باشاغا في الهواء )