الأقتصادي

فار الجامع و فار الجمعية ( مش كلها فيران )

فار الجامع و فار الجمعية ( مش كلها فيران )

 

فار الجامع و فار الجمعية ( مش كلها فيران ) 

 

فار الجامع: في الثقافة الليبية الدارجة يقولون عن الرجل الفقير فقرا مدقعا؛ إنه "أفقر من فار جامع"، يعني أنه بلغ من الفقر مبلغا شديدا حتى شبه بفار الجامع الذي هو أفقر الفئران على الإطلاق، فلا يوجد في الجامع أكل ولا شراب، فلا سكان يطبخون ولا مزارعين يخزنون ولا تجار يبيعون ويشترون، فيبيت فار الجامع ليله طاويا ويقضي نهاره شاكيا بخلاف غيره من الفئران التي تعيش في البيوت أو المزارع أو المخازن أو حتى التي تعيش في مكبات القمامة والمجاري، فإنها تجد ما تسد به جوعها وتقيم به أودها.

فار الجمعية: ظهر في ليبيا في فترة السبعينات والثمانينات مصطلح فار الجمعية الذي انتشر مع انتشار فكرة الجمعيات الاستهلاكية في فترة " تجريم" التجارة ومنعها، فتقوم الجمعية وفقا لهذه الفلسفة بلعب دور الوسيط بين المواطن والدولة، حيث تأخذ السلع من الدولة بسعر مدعوم، وتبيعها للمواطنين المساهمين فيها بنفس السعر أو بهامش ربح بسيط جدا.

ولكن مع ظهور بوادر النعمة المفاجئة على بعض مسؤولي الجمعيات، ظهر مصطلح فار الجمعية الذي يلمز هؤلاء المسؤولين بأنهم يختلسون البضائع التي يفترض يهم حفظها وتوزيعها، تماما كما يفعل الفأر في المخزن عندما يأمن على نفسه من الخازن وقطه.

فار الجامع يشبه الفقير الذي لا يجد ما يسد رمقه، وفار الجمعية يشبه الرجل الذي أثرى من سرقته لما اؤتمن على حفظه.

ما دعاني للمقارنة بين فار الجامع وفار الجمعية هو الزيادة المضطردة والرهيبة في المسافة بين الفقراء والأغنياء في ليبيا، الفقراء يزدادون فقرا، والأغنياء يزدادون غنى، والمسافة بينهم تزيد يوما بعد يوم.

ومع الأزمات الاقتصادية العالمية والحروب التي رفعت أسعار السلع الأساسية في جميع أنحاء العالم، ومع حالة التضخم التي ضربت اقتصادات دول أقوى من ليبيا، يعتبر صمود اقتصاد بلادنا مدعاة للفرح، ولكنه ليس مدعاة للفخر، فبلادنا تقوم بدور المقاول "البقال" الذي يخرج النفط من باطن الأرض ويبيعه لمن يريده ويقسم الأموال على من يعول.

فلماذا إذا يزيد البون شساعة بين الفقراء والأغنياء؟ وفي دولة لا تقوم إلا ببيع نفطها وتوزيع عوائده؛ لماذا يوجد الفقراء أصلا؟ وفي ظل عدم وجود اقتصاد سوق حقيقي مبني على لوائح وقوانين ناظمة ومنظمة؛ من أين يأتي كل هؤلاء الأغنياء؟ ولماذا يزدادون عددا ويزدادون غنى؟

 

 

يزداد عدد هؤلاء الأغنياء –أو فئران الجمعيات- ويزدادون غنى؛ بسبب تهاوننا وتكاسلنا –نحن فئران الجوامع- في الدفع نحو صياغة قوانين تحمي أموالنا السائبة التي تدور بين المسؤولين بلا حماية، بل مع وجود قوانين تحمي السراق في ممارسة سرقتهم وتجعل إثراءهم –الذي يزج بهم في السجون في دول أخرى- أمرا عاديا بل وحتى مستحقا في نظرهم ونظر حاشيتهم.

كثيرا ما يدور بين عامة الناس مصطلحات مثل ثورة الخبز وثورة الجياع وغيرها، وهي كلمات رنانة تشبع أوهام العامة بأهميتهم ثم ما تلبث أن تختفي في زحمة سعيهم اليومي الحثيث لتوفير لقمة العيش لمن يعولون، بينما يتنعم المؤتمن على إدارة شؤونهم في رفاهية وظيفته الشاقة، ويصرف الأموال يمنة ويسرة، ويسافر في الطائرات الخاصة، ويلبس أفخر الثياب وأرقى الماركات مع أن مرتبه الموثق في السجلات لا يزيد كثيرا عن مرتب فار الجمعية.

لماذا إذا يحدث هذه التباين بين الفأرين ويعيش أحدهما في قصر والآخر في كوخ؟ ويعالج أحدهما في أوروبا بينما يتسول الآخر في مواقع الانترنت والمساجد وغيرها لدفع تكاليف علاج ابنه في مصحة –مشي حالك- في ليبيا؟ ولماذا يدرس أبناء أحدهما في أرقى المدارس الخاصة ويتعلمون اللغات والمهارات بينما يدرس أبناء الآخر في مدارس الدولة فيخرجون في نهاية العام بمحصلة علمية قد تكون أقل مما دخلوا به في أول العام ولتكون النتيجة الحفاظ على الطبقية المقيتة في المستقبل فأولاد الأغنياء يحصلون على الوظائف المجزية بحكم تعليمهم العالي بينما يحصل أبناء الفقراء على الوظائف الدنيا بسبب تحصيلهم الفقير؟

عزيزي القارئ؛ إذا كنت تقرأ هذا الكلام وتشعر بأن حالة فار الجامع تنطبق عليك، فاعلم أنك مساهم في ذلك، بسبب سكوتك عن القوانين التي تستبيح المال العام والتي يرفض المسؤولون تغييرها لأنها تفتح لهم الطريق أمام الملايين من الدينارات، بينما ترفض أنت السعي إلى تغييرها لأنها تمنحك الفتات! يرفض المسؤول تغييرها لأنها تعطيه المكانة الاجتماعية العالية والحصانة للممارسة اختلاساته المليونية، بينما ترفض أنت السعي إلى تغييرها لأنها تمنحك الحظوة عند الحاج –فار الجمعية- فتشعر بنوع من التميز عن باقي أقرانك من فئران الجامع وترقيك ولو للحظات إلى مرتبة فار البيوت أو فار الحقول، فتريد بدورك أن تحافظ على هذا التميز مع أنه –لو تأملت- لا قيمة له.

قبل الحديث عن ثورة الجياع وثورة الخبز لنتحدث عن ثورة فئران الجامع الذين وحدوا صفوفهم ووحدوا كلمتهم مع اختلاف مشاربهم نحو هدف واحد، دستور ضامن وقوانين عادلة تحمي أموال البلاد من السرقة وتقطع الطريق أمام فئران الجمعية عن مزيد من السلب والنهب قبل أن تمهد طريقا أخرى نحو محاسبتهم عما اقترفوه خلال سنوات الفوضى.

عزيزي فار الجامع؛ إن فار الجمعية الثري المرفه الذي يركب السيارات الفارهة وتسير أمامه وخلفه مواكب الحماية، الذي يرفل في النعيم في قصره الذي لا تنقطع عنه المياه ولا ينقطع عنه الكهرباء، الذي لا يقف أبدا في طوابير البنزين رغم امتلاكه أسطولا من السيارات، الذي يقضي عطلة الصيف في باريس ولندن وروما، وعطلة الشتاء في أسطنبول ودبي والقاهرة، الذي يقبض أضعاف راتبك الشهري كبدل سكن وبدل مركوب وبدل ملابس، والذي يسافر على حسابك في طائرة خاصة ويقبض بدلا للسفر –بالدولار- كأنه يضحي بسفره فنكافئه على تضحيته؛ لن يتنازل من تلقاء نفسه عن هذه المزايا بل سيسعى لزيادتها وسيسعى لإقناع نفسه وإقناعك أنها مستحقة، وستبقى في نظره كذلك ما دمت مستمرئا لذل الواقع ومستمرا في مناداته بـ(الحاج) مع أنه ليس أكثر من فار جمعية.