الاعتراف سيد الحل !
تستمر محاولة الناس في صراعهم مع ( السلطة ) منذ نشآتها كفكرة بشرية تنظم العلاقات بينهم ، وتمنع الصدام النابع من محاولة كل فرد من المجتمع ان يستأثر بكل المزايا الموجودة دون اهتمامه بباقي الجماعة البشرية التي يعيش فيها؛ في الحصول على الاعتراف بهم وبوجودهم ، ويبدو ان مسألة الاعتراف هي مسألة مُلحة بالنسبة للنفس البشرية ، حيث يقول الفيلسوف الألماني يوهان غوتليب فيشته (لا أحد يمكنه الاعتراف بالآخر، إذا لم يعترف الاثنان ببعضهما البعض، ولا أحد يمكنه أن يعامل الآخر ككائن حر، إذا لم تتم معاملته هو الآخر ككائن حر).
تعتبر فكرة الاعتراف من الأفكار التي لازلت محط نقاش معمق في المجتمع العلمي المهتم بالفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع ، إلا أن الشعوب التي تمكنت من صناعة نظامها السياسي القائم على أساس العقد الاجتماعي بين الشعب والسلطة ، حيث الشعب هو من يكتب محتوى هذا العقد ويحدد بنوده ويكون الأمين والحارس عليه من كل المحاولات التي تسعى فيها السلطة السياسية إلى خرقه أو عدم التقيد به أو تقييده؛ وصلت إلى نوع من الوعي الذي مكنها من التعامل بطريقة جيدة نسبياً مع هذه الفكرة ، وتطوير أدواتها في سبيل تحقيق فكرة الاعتراف الحقيقي بكل أفراد المجتمع ، وتبني ذلك في إطار سياسات الحكومات وخططها الإستراتيجية المعدة لتطوير البنيان الهيكلي للمجتمع.
في القطر الليبي نعتقد أننا الآن في مرحلة محاولة كتابة هذا العقد ، لهذا نجد أن مسألة الاعتراف حاضرة و بقوة ، من قِبل الجميع ، بل نعتبرها في بعض الأحيان هي إحدى مُحركات الصراع في المجتمع الليبي ، في مجتمع يحتوي على بنيان هيكلي اجتماعي مبني على القبائل والأعراق ، ولم يسمح له التاريخ ان يناقش مسألة ( كيف سيعيش مع بعضه ) وما هو النظام الذي ينبغي أن يوضع ليشعر الجميع أنه يُمثله ،،
ونعتبر أن كل المحاولات التي بُذلت خلال السنوات الماضية لوضع إطار جامع يشعر الليبيون من خلاله أنه يُمثلهم ( أكان ذلك دستورا أو وثيقة أو حكومة ممثلة له ) كان يتعامل مع فكرة الاعتراف في إطارها السطحي !
بمعنى نجد أن إحلال فكرة المحاصصة والتمثيل الشكلي ( صوريا ) للأقاليم والقبائل والأعراق في ليبيا ما هي إلا محاولة ( مشوهة ) لتكريس فكرة الاعتراف ، حيث بمجرد الإعلان عن هذه الصورة يحاول صانعوها ( مجتمع دولي – أطراف سياسية – بعثة أممية ) إيصال فكرة أن الجميع موجود ومعترف به ، إلا أنه في أرض الواقع لا يتحقق ذلك بشكل عملي .
يتضح ذلك عندما تجد أن ممثلي مثلا إقليم معين قد انغمسوا بالاهتمام بشؤونهم الخاصة بعيدا عن إحداث تغيير حقيقي في حياة وأولويات من يدعون تمثيلهم ، لأن مسألة تمثيلهم لم تكن منذ البداية نابعة من اختيارهم بل جاءت بحكم الرسم البياني الذي وضع من أطراف تعتقد أنها تعي جيدا كيف تُهندس البنية الهيكلية للسلطة التي ستحضى باعتراف الجميع بحكم أنها تُمثلهم .
فلا يحدث التغيير ، ولا نرى اعترافا حقيقيا بفئات المجتمع ، فتسقط هذه السلطة وتُعاد هذه الحالة من جديدة في كل مرة إما بحرب خاطفة ، أو بسحب بعض الممثلين الصوريين من هذه السلطة ، او دعوى انفصالية ، او قفل ( شيشمة الفلوس أو الماء ) .
إن مقدرتنا كمجتمع في التعامل مع فكرة الاعتراف ببعضنا وتقبل فكرة اختلافنا هي الخطوة الأولى للخروج من حالة الاستخدام التي يستعملها أصحاب المصلحة في استمرار المراحل الانتقالية ، حيث أن فكرة الاستحقاق تكون جماعية ، وتعتمد على اعترافنا الحقيقي وليس الصوري بوجودنا ، وأن السلطة السياسية تمثلنا حقيقة لا مجازاً .
ولن يتمثل ذلك فقط بوجود أوراق تحمل مصطلح ( دستور ) ، بل يجب لأن يكون هناك وعي مجتمعي بأهمية الاعتراف في السلوك الجمعي لنا حتى نستطيع أن نعكس هذه السلوكيات في نصوص جميلة ومنمقة نسميها دستور أو ( كتاب أزرق !) لا يهم ، المهم هو أن تعبر هذه النصوص عن وعينا الذي تُرجم إلى سلوك مُعاش .
حتى يحدث ذلك دعنا نتأمل في فكرة الاعتراف، ونضحك بصوت عالي كلما رأينا على شاشات التلفزيون وعبر المواقع الإلكترونية خبراً يقول أن هناك حكومة جديدة تحمل اسم ( حكومة الوحدة الوطنية ) !