شؤون قانونية

قراءة في إستبيان سفر المرأة بدون مرافق ( شِن القصة )

 قراءة في إستبيان سفر المرأة بدون مرافق ( شِن القصة )

 قراءة في إستبيان سفر المرأة بدون مرافق ( شِن القصة )

 

نصت المادة الرابعة عشرة من الإعلان الدستوري المؤقت في الباب الثاني (الحقوق والحُريات العامة) على التالي: (تضمن الدولة حرية الرأي وحرية التعبير الفردي والجماعي، وحرية البحث العلمي، وحرية الاتصال، وحرية الصحافة ووسائل الإعلام والطباعة والنشر، وحرية التنقل، وحرية التجمع والتظاهر والاعتصام السلمي، وبما لا يتعارض مع القانون) انتهى نص المادة.

وبما أن حرية أفراد المجتمع في التنقل من مكان إلى آخر داخل إقليم الدولة وخارجه لا تتعارض مع أي نص قانوني في الدولة –حتى الآن على الأقل- فلا يحق لأي أحد ولأي جهة تقييد حرية أي فرد من أفراد المجتمع في التنقل والسفر إلا مع وجود مسوغ قانوني لهذا التقييد.

في بداية عام 2017 أصدر عبدالرازق الناظوري بصفته التي كان يحملها آنذاك وهي الحاكم العسكري للمنطقة الشرقية –أو للمنطقة التي حددها قرار تعيينه لهذا المنصب في ذلك الوقت وهي المنطقة الممتدة من درنة شرقا إلى بن جواد غربا- قرارا يقضي بمنع سفر المرأة الليبية من غير محرم منعا باتا، وقوبل القرار وقت صدوره بترحيب كبير من قبل بعض شرائح المجتمع وانتقادات واسعة من قبل شرائح أخرى اعتبرت القرار ردة عن مبادئ الحرية التي نادت بها ثورة فبراير والتي صدر القرار بعد الاحتفال بذكراها السادسة بأيام قليلة، واعتبروه أيضا مخالفا للإعلان الدستوري المؤقت في المادة التي أشرنا إليها في بداية المقال.

ومع توالي الاحتجاجات والرفض للقرار على مواقع التواصل الاجتماعي؛ برر الحاكم العسكري قراره بأنه جاء حرصاً منه على الأمن القومي، وانطلاقاً من مبدأ الحفاظ على أمن المواطن والمواطنة، ولما تتعرض له المواطنات الليبيات من حملات تجنيد من قبل جهات أجنبية تستغلهن لأغراض الجوسسة وتسعى من وراء ذلك لاختراق الدولة والمجتمع من خلالهن.

لم يقنع هذا التبرير حتى أنصار القرار ذلك أنه في حال شك الجهات الأمنية بأهداف بعض النشاطات التي تقام خارج البلاد ويدعى لها ليبيون وليبيات بإمكانها استدعاء النساء أو الرجال على حد سواء والتحقيق معهم، وليس منع النساء من السفر، كما أن الرجال يحضرون مثل هذه الورشات والندوات والمؤتمرات وبإعداد أكبر من النساء غالبا ويمكن أن يقع عليهم ما يقع على النساء من الاستهداف والاستدراج والتجنيد؛ فأين المنطق في منع النساء من السفر بهذه الحجة.

 

في المنطقة الغربية حيث لم يسر القرار المذكور لعدم سيطرة الجهة العسكرية المذكورة عليها؛ تجادل الناس حول القرار وأسبابه ونتائجه وأهلية مصدره كل يصدر في تحليله من موقفه من السلطات العسكرية في شرق البلاد، فمؤيدوها في غرب البلاد دعموا القرار وتمنوا صدور مشابه له عندهم، ومعارضوها اعتبروا القرار استبدادا ودكتاتورية وتمهيدا لحكم شمولي جديد يضرب بعرض الحائط دستور البلاد وقوانينها.

وكعادة الأنظمة الدكتاتورية التي تصدر القرار ليلا ثم تتراجع عنه في المساء دون إعلان ذلك حتى لا تتهم بالتخبط في اتخاذ القرارات أو التأثر بالرأي العام أو الرضوخ لضغوطات محلية وأجنبية؛ لم يعد لقرار الحاكم العسكري بمنع النساء من السفر أي تأثير في مناطق نفوذه وسحب القرار بدون (شوشرة) أو إعلان لذلك وعاد الحال على ما كان عليه قبل صدوره وكأن أمن البلاد القومي لم يعد في خطر من تعرض المسافرات الليبيات لخطر التجنيد والإفساد.

ما أعاد فتح هذه الملف اليوم هو قيام السلطات الأمنية الرسمية في الدولة –في غرب البلاد هذه المرة- بإجراء يفرض على الليبيات المسافرات دون مرافق ملء نموذج بيانات، يتضمن تساؤلات حول أسباب السفر، والغرض منه، وغياب المرافق (المحرم) وعنوان السكن، وهل سبق لها التنقل دون مرافق؟

السلطات في غرب البلاد لم تقم بمنع النساء من السفر بلا مرافق (محرم) صراحة، بل ولم تلمح إلى ذلك، من لم تسافر هي من احتجت على إلزامها بملء الاستبيان واعتبرت ذلك إجحافا وتقييدا للحرية، أما من قمن بملء الاستبيان فقد سافرن بدون مرافق ولم يتعرضن لأي تضييق أو اضطهاد أو إساءة، ولكن ما الغرض من فرض ملء الاستبيان وإلزام كل مسافرة منفردة بذلك ومنعها من السفر حال رفضها؟ ما قيمة هذا الاستبيان وما قيمة الأسئلة الواردة فيه خاصة مع غياب أي وسيلة للتحقق من الإجابات عليها ومع تأكيد بعض المسافرات على مواقع التواصل الاجتماعي أنهن أعطين إجابات غير صحيحة على الأسئلة؟

وكسابقه في شرق البلاد؛ قوبل إجراء السلطات الحاكمة في الغرب بردود فعل متباينة، بين من رآه انتهاكا وتمييزا ضد النساء من الناحية القانونية والدستورية ومخالفة للتشريعات النافذة في الدولة التي أعطت النساء حرية التنقل والسفر أسوة بالرجال؛ وبين من رآه إجراء وقائيا واحترازيا الغرض منه التنظيم والحماية، وبين من نظر إليه كما نظر إلى سابقه من وجهة نظر فكرية مذهبية وأيده بقوة بحجة أن سفر النساء بلا محرم شرعا (وهو أمر لا تتفق عليه كل المذاهب والآراء الفقهية).

 

وأيا كان التبرير لمثل هذه الإجراءات يظل التساؤل المطروح دائما ما هي الاستفادة من إلزام النساء بملء نموذج لا يمكن للجهة التي فرضته التحقق من صحة المعلومات الواردة فيه؟ ما قيمة الاستبيان إذا أمكنني الكذب في إجابات أسئلته ولا يمكن لأحد التعقيب على كذبي؟ إذا قلنا إن المسافرة (س) سبق لها السفر بلا محرم مئة مرة وأجابت عن السؤال بأنها المرة الأولى؛ من يستطيع التحقق من إجابتها؟ وفي حال عدم إمكانية التحقق؛ ما الفائدة من السؤال؟ إلا إذا كان الاستبيان ليس استبيانا أصلا وإنما هو عداد الغرض منه معرفة أعداد النساء الاتي يسافرن منفردات وإصدارها لاحقا كإحصائية موثقة من واقع الاستبيانات الموجودة في المطارات والمنافذ، وربما لدعوة السلطة التشريعية لإصدار تشريع بمنع السفر بلا محرم للنساء بحجة ما يمثله هذا الأمر من خطورة لأن أعدادهن كبيرة كما يؤكد الاستبيان، وحتى لو كان الغرض هو هذا، فكيف يمكن التحقق من صحة هذه الإحصائية مع تمكن الجهة التي تصدرها من التلاعب بعدد الاستبيانات زيادة ونقصا؟

كان الأجدر بسلطات البلاد في شرقها وغربها قبل أن تصدر قرارا صريحا بمنع النساء من السفر بلا مرافق، أو أن تقوم بإجراء لجس نبض المجتمع وتجهيزه لمثل هذا القرار؛ أن تفتح حوارات مجتمعية معمقة، يناقش فيها الرافضون والداعمون حججهم وأسانيدهم ويقيمون الحجة على صحة موقفهم ويقنعون المجتمع بجدوى ما يدعون إليه ثم يدعون السلطات التشريعية إلى إصدار تشريع يدعم توجههم لأنه يحظى بقبول مجتمعي واسع.

لا أدعو في هذه الورقة إلى سفر المرأة الليبية بلا مرافق كما قد يفهم البعض، ولكن لا أرى لأحد الحق في منعها إن أرادت ذلك.

 

كما أن الإقرار بالأسباب الحقيقية لمثل هذه القرارات وهي دغدغة مشاعر المجتمع بإيهامه أن السلطة تصدر قراراتها على خلفية دينية لأنها سلطة تقية ومتدينة وهو مجتمع محظوظ لحصوله على سلطة تراعي توجهاته؛ أفضل من التذرع والتحجج بذرائع وحجج واهية مثل الحفاظ على أمن المجتمع لتعرض من يسمين بالناشطات للتجنيد والاستقطاب من قبل مخابرات دول أجنبية، أو الحفاظ على الأخلاق والقيم لأن من يسافرن منفردات يتفلتن من قيود المجتمع ويقمن بأفعال منافية للقيم الدينية، لأن هذه الأعذار تنسحب على الرجال والنساء، الرجال ليسوا بمنأى عن الاستهداف من قبل المخابرات الأجنبية والمنظمات المخالفة لقيم المجتمع سواء كانت دينية أو سلوكية بل إن الواقع يشهد بأن أعداد المتأثرين بهذه الدعوات من الرجال أكثر من النساء بكثير، كما أن الشباب الذين يسافرون في العطلات والأعياد لدول الجوار هم أكثر انتهاكا للقيم الدينية والأخلاقية والعرفية من النساء وانتشار هذا الأمر بين الناس أكبر من أن يحتاج معه إلى تعريف وتبيين، والمعصية معصية في نظر الشرع بغض النظر عن جنس مرتكبها، كما أن الخيانة في نظر القانون خيانة وعقوبتها واحدة بغض النظر عن جنس مرتكبها.