سخرية الغرقى: ليبيا تضحك وهي تغرق !
منذ أيام قليلة، ومع مرور أول منخفض جوي هذا الموسم –منخفض صلى الناس من أجله شرقا وغربا- تحولت شواره بنغازي وبعض مدن الشرق الليبي إلى أنهار، سيارات غارقة حتى النوافذ، بيوت هجرها أهلها بعد أن غزاها الماء، طرقات أغلقت وعطلات منحت للطلبة والمدرسين بسبب غرق الطرق والمدارس، وهو مشهد مألوف كررته السنون في طرابلس ومصراته وغيرها، وتكراره اليوم في بنغازي لن يكون معزولا، فاليوم بنغازي وغدا غيرها، الفيضان واحد والضحية واحدة، السخرية فقط هي من تتعدد.
ومع تصفحك لهاتفك ومتابعتك للصور القادمة من بنغازي ستنهمر عليك التعليقات من صفحات تدعم حكومة الغرب أو تناكف حكومة الشرق العداء، تعليقات تتهكم وتسخر من مشاريع التنمية في الشرق، وتنكل بـ"إنجازات" صندوق ابن حفتر، والمشهد هو ذاته يتكرر بحذافيره، ويتداوله الناس مرة في الشرق وأخرى في الغرب، فعندما كان الغرق في طرابلس؛ هزأت صفحات الشرق وقالوا: خطة "عودة الحياة" ماتت، وقالوا: أين مليارات إعمار العاصمة؟ واليوم، عندما تبتلع المياه بنغازي؛ تقفز صفحات الغرب لتهزأ هي الأخرى، وتصرخ انظروا إلى إعمار ابن حفتر، انظروا إلى كباري صندوق التنمية الوهمية، تشمت برسوب الصندوق في أول امتحان حقيقي، وتمجد المطر الذي كشف الزيف.
سخرية مرة، متبادلة ومتكررة، والعجيب أن الغريق نفسه يضحك على غريق آخر في الجهة المقابلة، كل منهما يغرق في القاذورات نفسها، كل منهما يدفع الثمن نفسه، لكنه يجد عزاءه الوحيد في سقوط الآخر، هذه هي المازوخية الوطنية، أن تفرح بكارثة في وطنك لأنها حلت بخصمك، وأن تنسى أن الخصم والمواطن يشتركان في الوطن ذاته، ويشتركان في الكارثة ذاتها.
بنيت الكباري أم لم تبن، وشيدت الطرق أم لم تشيد، ونفذت المشاريع أم لم تنفذ، النتيجة واحدة، لم تجفف المستنقعات، ولن ترجع المليارات التي صرفت أو فلنقل نهبت، بل هناك مليارات غيرها تطلب من هنا ومن هناك، والأسماء فقط تتغير؛ "خطة عودة الحياة" في الغرب، و"صندوق التنمية وإعادة الإعمار" في الشرق، الثوب مختلف والحقيقة واحدة؛ سرقة منظمة وفساد مؤسسي، والمقاول الفاسد نفسه قد يعمل هنا وهناك، فاللصوص لا وطن لهم إلا في جيوبهم.
أما المواطن الليبي في هذه المعادلة، فليس أكثر من جمهور يصفق في حفلة الدمار والموت، يدفع ثمن التذكرة من قوته، ثم يجلس ليشاهد الخصوم يتعاركون في الحلبة، ويضحك ويصفق ويشجع ويشمت، ناسيا أن دمه هو الذي يلون رمال الحلبة، وأن عرقه هو الذي شيد بناءها.
الطريف أن الساخرين من هنا وهناك يصدقون أنفسهم، ويظنون أن أي سخرية تفضح الآخر هي انتصار لهم، لا يدركون أنهم يفضحون أنفسهم، فيظن بعضهم أن غرق شارع في بنغازي هو نصر لطرابلس، وأن غرق حي في طرابلس هو انتصار لبنغازي، بينما هو من يدفع الثمن مرارا وتكرارا، يدفع ثمن المشاريع الوهمية، ثم يدفع ثمن ترميمها، وعزاؤه أن أمواله التي سرقت من قوته، لم يبن بها خصمه شيئا جديرا بالفخر.
الفساد يا أبناء وطني لا ولاء له، الفساد هو سرطان تتشعب أورامه في كل مكان، فمن يسرق المال من طريق في طرابلس، ومن يسرق المال من ميناء في درنة، أو ينهب أموال المشاريع في مصراتة، أو يلتهم مخصصات البنية التحتية في أجدابيا، كلهم واحد وكلهم أعداؤك مهما حاولوا أن يظهروا لك غير ذلك، اللص في الغرب ليس بطلا، واللص في الشرق ليس منقذا، كلاهما لص، الفرق فقط في الشعارات التي يرفعها وهو يفرغ خزينة الدولة.
والنتيجة دائما واحدة؛ شعب يغرق في الفقر، وخدمات تنهار، وتعليم يتراجع، وصحة لم تعد توجد إلا في الوجه، وبنى تحتية تتحول إلى أحواض سباحة مع أول هطول للمطر، والمواطن يعاني، لكنه بدل أن يوحد صفوف المعاناة لمواجهة الفاسدين؛ يقسم معاناته حسب التقسيم الجغرافي، وكأن الفقر له حدود إدارية، أو كأن المرض له انتماء سياسي.
الأطفال يغرقون في المدارس المنهارة، ومع ذلك ما زالوا في انتظار كتب منهجية لم تتوفر بعد، الشباب يغرقون في البطالة فيضطرون إلى الانتساب إلى مليشيات تمنحهم مرتبات مجزية ثم تزج بهم في أتون الموت في أول خلاف بينها، وكبار السن التهمهم الفقر والعجز وهم ينتظرون مرتبات ضمانية لا تكفي الواحد منهم أسبوعا، كل هذا حقيقي وواقع، ولكن الحديث عنه ليس "ترند"، "الترند" هو السخرية من غرق الشوارع، لأن السخرية لا تكلف شيئا، وقد ترفع أسهمك عند جلادك، بينما المواجهة تتطلب شجاعة، والشجاعة قد تودي بك إلى المجهول.
مشروع الطرق الفاشل في بنغازي يموله نفس الشعب الذي يدفع لمشروع الصرف الصحي الفاشل في طرابلس، الدينار الذي يسرق هنا هو نفسه الذي ينهب هناك، والضحية واحدة لكنها منقسمة على ذاتها، الضحية هي شعب يجلد بنفس العصا، وبدل أن يثور ليوقف الجلد، يتجادل حول نوعية العصا المستعملة!
خلف كل صورة ساخرة لسيارة غارقة؛ قصة إنسان، وخلف كل مقطع لشارع تحول إلى نهر؛ حكاية أسرة، وخلف كل تعليق تهكمي؛ ألم مكبوت وموجه بطريقة خاطئة نحو الأخ الليبي وليس نحو اللص الليبي، نحو الجار وليس نحو الحاكم الذي سرق المال.
والنتيجة واضحة كوضوح الماء الآسن في شوارعنا الغارقة، فما دام الليبيون يسخرون من غرق بعضهم؛ فسيستمر الفاسدون في السباحة في بحر من الأموال المسروقة، وما دامت الأولوية هي إحراز نقاط على خصم سياسي؛ فستكون النتيجة خسارة الجميع، والطوفان لن يميز بين شرق وغرب، الماء سيغرق الجميع، والفاسدون وحدهم من يبنون قوارب النجاة لتنقلهم إلى بر الأمان بما سرقوه من أموالنا حين يجتاحنا الطوفان.