مناورة سرت: هل تتوحّد البنادق؟
تمرين "فلينتلوك 26" الذي تعتزم قيادة القوات الأمريكية في أفريقيا "أفريكوم" تنفيذ جزء منه في سرت الليبية في أبريل القادم؛ ليس مجرد استعراض عسكري عادي بل هو رسالة أمريكية مفادها أن ما تسميه أمريكا الحرب على الإرهاب في الصحراء تحتاج إلى شركاء أقوياء، وليبيا لم تغب يوما عن معركة الحرب على الإرهاب وطالما كانت شريكا لأمريكا وأوروبا في هذا المجال، فهل تحولت الرسالة من دعوة لعقد التمرين في سرت الليبية عام 2026، إلى لغز سياسي معقد، أم هي مجرد مناورة عسكرية اعتيادية؟
سرت ليست مدينة عادية، هي ليست عاصمة مزدهرة، أو بقعة نائية في الصحراء، وهي حتما ليست شاطئا جميلا وحسب؛ فسرت هي الخط الفاصل بين معسكري الصراع في ليبيا، وهي الحلقة الأضعف في الجغرافيا السياسية الليبية، الأرض التي تتنازعها قوات الشرق وقوات الغرب، التي تذوقت مرارة الحرب مرتين، واحدة في 2011 ضد النظام السابق، وأخرى في 2016 ضد تنظيم داعش، ولا زالت تعيش على تخوف من حرب ثالثة فهي تمثل نفطة التماس بين شرق ليبيا وغربها من الناحية العسكرية، واختيارها موقعا لتدريب "فلينتلوك 26" له دلالات ظاهرة وخفية، فلماذا سرت؟
الجواب ببساطة: لأنها النقطة التي يريد الجميع اختبارها، الأمريكيون، عبر أفريكوم، يريدون معرفة ما إذا كان بإمكان الطرفين الليبيين تأمين موقع محايد لحدث دولي، ويريدون دفع القوات الشرقية والغربية للعمل تحت قيادة واحدة، ولو مؤقتة، هذا الاختبار لا يقل صعوبة عن أي مهمة عسكرية ضد التنظيمات المتطرفة.
والسؤال الذي يفرض نفسه أيضا؛ هل يريد الليبيون أن تتحول سرت من رمز للانقسام إلى منصة للوحدة؟ أم أن كلمة وحدة نفسها أصبحت كلمة مبتذلة في قاموس السياسة الليبية، لا تثير سوى التهكم والاشمئزاز؟
فكرة تشكيل "قوة ليبية موحدة" للمشاركة في التمرين تبدو كحلقة جديدة من مسلسل الأوهام الذي عشناه ونعيشه منذ زمن سحيق، فكم مرة سمع المواطن الليبي كلمة "توحيد المؤسسة العسكرية"؟ كم لجنة تشكلت، وكم اجتماعا عقد، وكم بيانا صدر، والنتيجة دائما صفر كبير؟ الجنرال في الشرق لا يأتمر إلا بأمره، والقائد في الغرب لا يعترف بشرعية منافسه.
ولكن، ماذا لو نجحت هذه الفكرة؟ ماذا لو وقف جنود من مصراتة وبنغازي والزاوية والكفرة جنبا إلى جنب تحت العلم الليبي الواحد في سرت؟ ستكون إثباتا عمليا أن التعاون ممكن عندما تكون الإرادة حقيقية، وقد تكون هذه الوحدة المصغرة الرمزية نواة حقيقية، وبذرة صلبة يمكن أن تنمو إذا سقيتها النوايا الحسنة بدلا من مياه الغدر والطمع.
لكن التاريخ الليبي يعلمنا التشاؤم، فكم من مبادرات بدت واعدة وانتهت إلى خيبة أمل؟ كم من اجتماعات في القاهرة وجينيف وتونس وبرلين وغيرها، بعضها مفتوح ومعلن، وبعضها سري وراء الأبواب المغلقة تحولت جميعا إلى مجرد صور للبروتوكول؟ الخوف الحقيقي أن يتحول نجاح تمرين "فلينتلوك" في سرت إلى مجرد ذكريات جميلة في ألبوم الصور، بينما يعود القادة إلى خنادقهم، وإلى تقسيم الغنائم، وإلى خطابات التحريض والتكفير.
أما المواطن البسيط، المطحون بين انعدام السيولة وغلاء المعيشة وغياب الخدمات وانعدام الأمن، فماذا يعنيه كل هذا؟
هي في الحقيقة لا تعني إلا شيئا واحدا فقط؛ هي بارقة أمل خافت ونقطة ضوء في آخر نفق مظلم، فأي خطوة نحو وقف دائم لإطلاق النار، وأي بادرة للتعاون العسكري، تعني أن صوت الرصاص قد يخفت يوما ولا يعود لإرهاب أطفالنا وتدمير أرزاقنا، وتعني أن الطرق قد تفتح، وأن الاقتصاد قد يتحرك، وأن عجلة البناء والتنمية قد تعود للدوران.
المشاركة الموحدة في مناورات دولية تعيد للليبـي شيئا من كرامته الوطنية المهدورة، وتذكره بأن بلاده كانت ذات شأن، ولها مكان في عالمها لا يشبه المكان الذي تحتله اليوم، وتخرجه لحظة من دوامة اليأس اليومي لتريه أن المستقبل قد لا يكون أسود بالكامل.
لكن هذه البارقة سرعان ما تنطفئ إذا لم تتبعها خطوات حقيقية، إذا اكتشف المواطن أن هذه الوحدة كانت مجرد ديكور للكاميرات، وأن القادة وأمراء الحرب عادوا للتمترس وراء خنادقهم، يتقاسمون المناصب والامتيازات خلف الكواليس بينما يبقى هو في انتظار شيشة زيت وشكارة سكر.
الواقع الحقيقية لتمرين "فلينتلوك" في سرت 2026 أنه أكثر من مجرد تدريب عسكري، فهو مشروع سياسي أمريكي بامتياز، قد يقفز وراء المبادرات الأممية ويتخطاها، قد ينجح وقد يفشل ويعيدنا إلى المربع الأول أو حتى ما قبله.
هل يريد الليبيون فعلا دولة؟ أم أن كل طرف يريد دولته الخاصة على أنقاض الوطن؟ هل يريد القادة مجدا شخصيا أم مصلحة وطنية؟ هل تستطيع أفريكوم أن تكون وسيطا نزيها أم أنها تلاعبت بأوراق الصراع لخدمة مصالح القيادة الأمريكية؟
الأسئلة كثيرة، والأجوبة لا تزال معلقة، وشيء واحد مؤكد وهو أن العالم سيراقب، وسيحكم على الليبيين من خلال هذا الاختبار، إما أن تثبت سرت أنها يمكن أن تكون جسرا للتوحد، أو تثبت أنها مقبرة أخرى للأحلام.
واللحظة حاسمة. والخيار بين البناء والخراب لا يزال في أيدينا، فهل نتعلم من دروس الماضي، أم أن التاريخ سيعيد نفسه مرة أخرى، كما فعل دائما في أرض ليبيا؟