الأمة التي قتلت عليًّا ، وتفوّض حفتر !
حين اغتيل عليّ بن أبي طالبٍ، كَرَّمَ اللهُ وجهَهُ، انطفأت آخر شمعة في زمن الشورى، وبدأت الأمة رحلةَ العودة إلى ما ثارت عليه ، قُتل الإمام الذي قال فيه عمر بن الخطاب: «أقضانا عليّ»، ونعاه ابن عباس بقوله: «ذهب العلم بموت عليّ»، ومعه غاب آخر صوت يجسد عدل الخلافة الراشدة وشجاعتها.
وسرعان ما تحوّل الصلح الذي عقده ابنه الحسن مع معاوية بن أبي سفيان إلى جسرٍ ممهَّدٍ لقيام حكم جديد يقوم على الوراثة لا على المشورة؛ إذ قال معاوية بعد أن استتب له الأمر: «الأرضُ لله، وأنا خليفةُ الله، فما أخذتُ فلي، وما تركتُ فبإذني»، فكانت تلك الجملة إعلانًا غير مكتوب عن نهاية الخلافة وبداية الملك.
وحين بايع معاويةُ لابنه يزيد، انفتح الباب رسميًا لزمن الملك العضوض، كما تنبأ النبي ﷺ حين قال: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم تكون ملكًا عضوضًا...» ومنذ تلك اللحظة، بدأ التاريخ الإسلامي وتاريخ المنطقة بأسرها يدور في دائرة مأساوية ، ثوراتٌ تُقام باسم الحرية، تنتهي بإعادة الاستبداد في ثوبٍ جديد واسم مختلف.
لستُ من الذين مقتنعين بمقولة «التاريخ يعيد نفسه»، بل أرى أن الناس يعيدون في أخطائهم كل مرة، وبنفس الترتيب؛ لهذا تتحقق نفس النتائج، حيث كل جيل هو فقط يكرر أخطاء من قبله، يخاف أن يقدم شيئًا جديدًا، ولا يريد أن يصبر، خاصة في ظل حالة الاستبداد في المنطقة، حيث يعتبر هذا النموذج من الحكم قُتل تجربةً في منطقتنا؛ فنحن نعي حتى النخاع مآلات هذا النظام وماذا سوف ينتج. إلا أننا نكرره؟
في خطابٍ مختصرٍ أعلن الجنرال حفتر عن عزمه الرجوع إلى إرادة الشعب لإنهاء ما سماه عجزَ الطبقة السياسية عن إنتاج حل للأزمة الليبية، والكل في معسكر الرجمة يتحدث عن فكرة التفويض.
والتفويض في منطقتنا هو آليةٌ تقسم الناس لسادة وعبيد، حيث كبارُ القوم الحاملين على رؤوسهم قماشًا متراكمًا على نفسه يقولون إنهم شيوخ قبائل، يَسِيرون حفاةً في اتجاه من يريدون أن ينصِّبوه حاكمًا ويبايعونه باسم من يقولون إنهم يمثلونهم؛ مشهدٌ يُقربك من حقبة الفايكنج أو العصور الوسطى في أوروبا ومنطقتنا، يكتفي الحاكم بهذه المبايعة ويتسلم الأرض وما عليها من حجر وبشر وروح وهواء، ويبدأ بعدها يحلم...
هذا المشهد أو المشروع يحدث في ظل نجاح شكل الصورة التي قدمها الجنرال حفتر وابناؤه في المناطق التي يحكمها ، أمنٌ واستقرار وقبضة حديدة تضمن للناس الحماية من بطش المليشيات وتمنعهم في الوقت نفسه من الحديث عن ما يخصهم؛ هم الآن تحت الرعاية، ولهم الأمن مقابل الحرية.
صفقة تُعقد في منطقتنا منذ أكثر من ألف سنة أو يزيد، وكل محاولةٍ لاستبدال هذه الصفقة تُقتل في مهدها ويُعاد الشعب إلى مسارها من جديد، ويُستدعى شيوخ القبائل لمبايعة القائد الجديد وسلالته وتسليمها الأرض وما عليها.
يحدث هذا كله في إطار ترتيباتٍ مهمةٍ ، حيث كل المؤشرات تقول إن عقيلة صالح خارج من الباب الصغير لقبَة البرلمان، وذلك نتيجة اختلاف، كما يرى بعض المراقبين حوله، بين أبناء الجنرال؛ وتفويض الجنرال لحكم ليبيا سيكون صعبًا نسبيًا في ظل وجود عقيلة صالح رئيسًا للبرلمان. فلا يوجد في منطقتنا "ديكان" في زريبة دجاجٍ واحدة!!
ويرى البعض أنه في إطار عجز المنطقة الغربية والنخبة الليبية عن تقديم مشروع متماسك لما تمر به ليبيا من انقسام، يمثل مشروع الجنرال المشروعَ الوحيدَ المتماسك والقابل للتطبيق بالنسبة للمجتمع الدولي، خاصة بعد أن نجح الجنرال حفتر من تمرير فكرة توريث ابنه للحكم، وهذا أعطى صبغةَ الاستقرار لمشروعه حتى بعد غيابه.
في حال مرّ هذا المشروع في جنوب وشرق البلاد، سيبدأ صدام حفتر —كما يرى متابعون— في أخذ مناطق ومدن المنطقة الغربية واحدةً تلو الأخرى، حيث لن يشن حربًا كبيرةً لدخول طرابلس؛ لأنه عرف أن هذا أمرٌ صعب الحدوث وتكلفته كبيرة، ويملك المال والبشر والأرض التي تعطيه مساحة الصبر والعمل بهذه المنهجية، في ظل حالة الفوضى الأمنية التي تعيشها طرابلس والمنطقة الغربية بأسرها، وحالة الإرهاق التي يمر بها سكانها من حالة عدم الاستقرار.
في ظل كل هذه الظروف نرى كيف أن شعبنا على بُعد خطوات من تكرار نفس الخطأ، ونكاد نسمع صوت مفتاح الكهف الذي سيدخله جيلي والأجيال التي تليه كما عاشها من سبقنا، وستضيع الفرصة التي منحها لنا التاريخ لنعيد كرامتنا وحريتنا ونؤسس كيانًا سياسيًا يتعامل معنا كبشرٍ أحرارٍ وفق قانونٍ يخضع له الجميع نَضعه نحن ونقره ونحاسب كل من يتجاوزه.
فإن أصبح هذا المشروع حقيقةً في ليبيا خلال الفترة القادمة، فإني أوجه هذه الوصفة لكل جيلي ورفاق الحلم كما ذكرها الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي:
وما الأرضُ فاعلمْ للكريمِ بمنزلٍ
إذا حَكَمَ أسدَ البلادِ قُرودُها
قدِ انقلبتْ أقفاؤُها لوجوهِها
فأذيالُها بينَ الغصونِ تقودُها
معلَّقةً رأسًا على عقبٍ بها
قناديلُ سوءٍ من ظلامٍ وقودُها
فتُصبحُ من أغصانِها بمشانقٍ
تُأرْجِحُها حمرُ الوجوهِ وسودُها
ولاةُ بلادٍ يخدمونَ غَزَاتَها
فساداتُها دونَ الرجالِ عبيدُها
تخونُ بني الدنيا لتحرسَ نفسَها
فَيَقتُلُها حُرّاسُها وجُنودُها