الأقتصادي

صرخة في وجه الإهمال المتعمد

صرخة في وجه الإهمال المتعمد

صرخة في وجه الإهمال المتعمد 

 

يقف العجوز في طابور المصرف الطويل ممسكا بصك في يده كتب عليه بأحرف مرتعشة؛ ادفعوا لأمر حامله: تسعمائة دينار فقط لا غير.. تسعمائة دينار فقط، ينظر إليها وكأنها نكتة قاسية، تثير دموعا في مكان ضحكات، ثم يرفع بصره إلى السماء متسائلا: بأي ذنب أهينت كرامتي بعد كل هذه السنين؟

في زحمة الحياة وصخب السياسة وقعقعة السلاح وضجيج جلسات الحوار والمصالحة، هناك فئة من هذا المجتمع يدفن أفرادها أحياء تحت وطأة الإهمال المتعمد، إنهم المتقاعدون، أولئك الذين قدموا زهرة عمرهم لخدمة هذه الأرض، فجازاهم من يتولون أمرهم اليوم بالإهمال والمماطلة. 

صندوق الضمان الاجتماعي يعلنها صريحة دون مواربة، فهو يصرف نحو 550 ألف معاش سنويا، وقد تضررت استثماراته وتأخرت بسبب ما تعانيه البلاد مما لا يخفى على أحد، ويحتاج إلى تمويل إضافي يقدر بحوالي 6.5 مليار دينار لتنفيذ قرار الزيادة، الرقم ليس هينا، لكنه ليس مستحيلا على دولة تمتلك موارد هائلة، وتوزع أموالا طائلة، وقال يوما عنها مبعوث أممي سابق؛ إن كل يوم يشهد ميلاد مليونير جديد.

القرار صدر، والحبر جف على الورق، لكنه معلق في مهب الريح، والزيادة لم تنفذ بعد، والسبب مماطلة مجلس النواب في توفير التغطية المالية، مماطلة تذكرنا بمشاهد ذلك المجلس الذي يتغيب أعضاؤه عن جلسات مصيرية، حتى أن بعض الجلسات التي نقلت على الهواء مباشرة لم يحضرها حتى عشرون عضوا، بينما غصت بهم المنصة الشرفية لملعب بنغازي الدولي منذ أيام لحضور مباراة في كرة القدم. 

وفي خضم هذه المماطلة، يطل علينا رئيس المجلس عقيلة صالح ليخبرنا أن مرتب الستة عشر ألف دينار الذي يتقاضاه الأعضاء قليل، بل ويزيد على ذلك فيقول إنه لو كان الأمر بيده لرفعه إلى خمسين ألف دينار!

يا للعجب.. ستة عشر ألف دينار قليلة في عينيه، بينما المتقاعد يحاول أن يصنع معجزة من تسعمائة دينار لتغطية نفقات شهر كامل، هذه القيمة التي ندرك جميعا أنها لا تكفي لشراء حاجات أسبوع واحد في زمن الغلاء الجنوني.

الرجل الذي يماطل في تحقيق الزيادة، لولا عضويته في مجلس النواب التي استحقها بحصوله على تسعمائة صوت في مدينته القبة، لكان هو الآخر متقاعدا يعاني اليوم ما يعانيه أقرانه. 

متى نرتقي كأمة ونلتفت إلى هذه الطبقة التي تئن تحت وطأة العوز بصمت؟ إنهم المدرسون والمدرسات الذين أخرجوا الأجيال التي تهملهم اليوم، وهم المهندسون والأطباء ورجال الشرطة والدفاع المدني وأبناء المؤسسة العسكرية وغيرهم ممن لم يبخلوا على هذه البلاد بحبة عرق.

اليوم، يأكلهم الحزن لعجزهم عن تلبية أبسط متطلبات الحياة لمن يعولون، وبعضهم يبكي دما وهو يهدر عزة نفسه مضطرا لقبول المساعدة ممن اعتاد أن ينفق عليهم. 

النقابة العامة للمتقاعدين تعلن أن عددهم بلغ حوالي 470 ألف متقاعد، متوقعة أن تشمل الزيادة نحو 350 ألفا منهم، والقانون رقم 5 لسنة 2013 ينص على زيادة معاشات المتقاعدين بنفس نسبة زيادة رواتب العاملين في الدولة، قانون واضح لا يحتاج إلى تأويل، لكنه يحتاج إلى إرادة سياسية غائبة.

النقابة تنتظر مناقشة القرار في مجلس النواب منذ أغسطس الماضي، والمتقاعدون ينتظرون بقلوب خائفة وأيدي مرتعشة، ينتظرون أن تتحرك الضمائر، أن تفيق القلوب من غفلتها، أن ترحم هذه الفئة التي أنهكها الزمن وأذلها الفقر.

 

ارحموا آباءنا وأمهاتنا، أعطوهم حقوقهم، فلقد أعطوا هذه البلاد زهرة عمرهم، فما أقل أن نكافئهم بكرامة العيش في آخره.