هل الليبيون يعبدون أكثر من إله؟
قبل أن تُعرف باسم ليبيا، كانت هذه الأرض الممتدة بين برقة وطرابلس وفزان مأهولة بشعوبٍ أمازيغية الأصل، تمازجت لاحقًا مع الفينيقيين والإغريق والرومان ، في تلك العصور، لم تكن فكرة الإله منفصلة عن مفهوم الزعيم أو الحامي، بل كانت انعكاسًا مباشرًا له.
الليبيون الأوائل كما تشير النقوش المصرية والكتابات الإغريقية عبدوا آلهة تمثل القوة والسيطرة والحماية أكثر مما تمثل الخلق أو الرحمة.
آمون الليبي الذي اتخذت عبادتُه شكلًا محليًا قبل أن يتبناه المصريون لاحقًا كـ«آمون رع». في واحة سيوة وجرمة كان آمون يُصوَّر على هيئة رجل بقرنين، دلالة على القوة والخصوبة، وكان الكهنة يقدّمون له النبوءات للحكام والملوك، حتى إن الإسكندر الأكبر جاء من مقدونيا ليُتوَّج “ابن آمون” في معبد سيوة، ساعيًا لشرعية إلهية ليحكم شمال إفريقيا.
هكذا كان الليبيّ يصنع الإله الذي يُضفي شرعية على الحاكم، فيتحوّل "المعبود" إلى ختمٍ يمنح السلطة قدسيتها.
حتى عندما تمددت قرطاج في غرب ليبيا، حمل الفينيقيون معهم آلهة مثل بعل حمّون وتانيت، فاختلطت رموزهم بالمعتقدات المحلية ، بعل حمّون كان إله السلطة والنار، والإلهة تانيت كانت رمز الخصب والوفاء للأرض.
لكن اللافت أن الليبيين في المدن الساحلية لم يعبدوهم عبادة خالصة؛ بل أعادوا تشكيلهم وفقًا لصور بشرية محلية، فكانت تماثيلهم بملامح ليبية، وشاراتهم قبلية، كأن الإله هنا مرآة للإنسان الذي يعبده، لا العكس.
حتى حين أسس الإغريق قورينا (شحات) ومدنها الخمس، لم يُلغوا الآلهة المحلية، بل دمجوها مع آلهتهم، فأصبح آمون الليبي هو زيوس آمون، وتانيت هي أثينا ليبية.
هنا بدأت فكرة “تأليه الإنسان” تظهر بوضوح؛ فالحاكم أو القائد العظيم يُمنح صفات الآلهة، ويُشيَّد له معبد بعد موته أو أثناء حياته (ممكن يكون معبداً أو قُبة الرجمة) ، في استعادةٍ رمزية لفكرة أن “السلطة لا تكتمل إلا إذا لامست السماء”.
وعندما وصلت الرسالة المحمدية إلى هذه الأرض حاولت أن تزرع فكرة أن الخضوع والعبودية هي لله فقط، وأن بني البشر، بشر؛ ناقصون ومجبولون على الخطأ، وتجنح أنفسهم دائمًا لغرائزهم، وأهم وأخطر غريزة هي غريزة السيطرة على البشر، حيث إن هذه الغريزة أو هذه الحالة حكر على الإله فقط، وهنا في معتقدنا هو الله جل في علاه ، إلا أن بني البشر من القدم وحتى الآن يسعون دائمًا إلى مشاركة الله هذه الحالة.
كما حاولت الرسالة المحمدية أن تنزع صفة القداسة عن أي بشر، حيث حتى الرسل والأنبياء وصفهم القرآن الكريم بأنهم بشر، خاضعون لما يخضع إليه البشر من نقص وخطأ، حتى لا يحولهم البشر إلى آلهة.
ويبدو أن هذا كله قواسم بين بني البشر، إلا أن ليبيا كأرض لها خاصية تلييب الآلهة دائمًا كما ذكرنا في مقالنا سلفًا، ونرى ذلك الآن في زمننا الحالي رغم أن البشرية الآن وصلت إلى آلية تفصل فيها الحاكم عن السماء، وتجعله خاضعًا لمراقبة الناس، ومحاسبته، والتخلص منه إن حاول أن يضيّع شعبه أو أن يسرقهم أو أن ينحاز لغرائزه على حساب مصالح الناس.
أعلم جيدًا أن هذا بديهي، لكن كما نقول دائمًا نحن في زمن البديهيات، لأن هذه الحالة تكررت خلال آخر ألف سنة على هذه الأرض، الناس تحول حكامها إلى آلهة، يموتون من أجلهم، ويقتلون الناس من أجلهم، ويرتبطون بهم بعلاقة غريبة جدًا، علاقة تعطيك إشارة أن هناك خللًا جينيًا في من يقطن هذه الأرض.
خلال المئة عام الأخيرة فقط أَلَّه الليبيون أكثر من شخص، وسلَّموه كل ما يملكون وخضعوا له بالكامل، وهذا لا ينطبق على حاكم القطر الليبي بالكامل، بل حتى بعض المناطق، وفي بعض المراحل التاريخية المتقلبة وغير المستقرة، كما لا يهم إمكانياته، أو حكمته، أو فكره، فقط هو قادر على استعمال العنف ضدهم في أي وقت وكيفما يشاء، حيث يشترك في هذا المشهد مع الإله، وهذا كافٍ لأن يخضعوا له ويؤلِّهوه.
عندما ترى مثلًا معمر الضاوي في ورشفانة، ونحن هنا نعطي مثلًا فقط لا حصرًا، ستجد أن كل الناس تقدم القرابين لمعمر ليرضى عليهم، من الترشح لعضوية المجلس البلدي وصولًا للعلاج وأحيانًا لخطبة امرأة ! الكل يريد البركة والموافقة، في مشهد لا يختلف كثيرًا عن تقديم الليبيين القدماء القرابين لآلهتهم التي صنعوها هم بأيديهم، وينطبق هذا الكلام من شط حي الأندلس إلى قبة الرجمة وصولًا إلى حدود النيجر، مجموعة من الآلهة تختلف وضعها ومدى سيطرتها ومقدار قوتها وعدد المؤمنين بها.
وحتى تزدهر مهنة صناعة الآلهة على هذه الأرض، هناك فئة من الناس تروّج دائمًا لباقي الناس أن غياب أو محاولة إسقاط أي إله يعني حتمًا سخط السماء عليهم وانهيار حياتهم المستقرة، ورغم أن حياة الناس غير مستقرة ولا تليق بحياة كلاب وقطط في سنة 2025 من الجهة الأخرى للمتوسط، إلا أن سكان هذه الأرض يقعون في كل مرة أسرى لهذا الإيحاء من صانعي الآلهة.
قد يكون ذلك نتيجة الفوضى التي عاشوها بعد سقوط كل إله، وذلك نتيجة عجزهم الجمعي عن إنتاج نظام يمكنهم من العيش كأحرار؟ ورغم مرور حالات تاريخية تعتبر فرصة لإنشاء نظام يصون كرامتهم وينهي حالة صناعة الآلهة الناقصة التي يقومون بها، يرفضونها ويهرولون بسرعة لصُنّاع الآلهة ليطلبوا منهم أن يصنعوا لهم إلهًا جديدًا وتستمر الدائرة.
فهمنا العميق لهذه الحالة كفيل بأن يعطينا المقدرة على التفكير في حل، حل يحرر الناس من أنفسهم أولًا، ويذكّرهم أن هناك إلهًا واحدًا فقط، وأن بني البشر بشر، وأن طقوسهم التي يطبقونها كل يوم من صلاة وزكاة والالتزام المطلوب من الرسالة المحمدية أساسها وأولها أن تؤمن أنه لا يوجد بشر إله، مهما ذكر لك أو قدم لك من كرامة أو تنمية أو فلوس.
لهذا، إلى كل الكافرين أمثالي بكل الآلهة المصنوعة من البشر، أقول لكم إن الطريق طويل، وسيسقط الكثيرون في حفرة العبودية الجميلة، فتسلحوا بإيمانكم، وادعوا الله لمتحدثكم الفقير بالثبات.