الأقتصادي

حاليا نُباع في سوق التنمية بثمن بخس!!

 حاليا نُباع في سوق التنمية بثمن بخس!!

  حاليا نُباع في سوق التنمية بثمن بخس!!

 

 

خرج علينا هذه الأيام فئات من الناس يدعون حرصهم على تنمية البلاد وإعمار ما خربه القتال ودمرته الحروب، يرفعون شعارات الإعمار والتنمية، ويعدوننا بـ"عودة الحياة" إلى طبيعتها، ويبشروننا بمشاريع قيد التنفيذ وأخرى تم الانتهاء منها، ومشاريع أخرى وضعت لها الخطط لتكون الأكبر من نوعها في ليبيا بل في المنطقة، يطالبون بميزانيات مليارية لتنفيذ مشاريعهم وتحقيق رؤيتهم، لا أدري لماذا تحديدا، ولكنني كلما رأيت هذه الشعارات والوعود البراقة تذكرت دائما قصة قديمة يفترض أن تكون عبرة للناس لا وسيلة للتسلية والفكاهة، قصة حصان طروادة!

 

ذلك الحصان الخشبي الضخم الذي ظنه الطرواديون هدية انتصار وعربونا لنهاية للحرب، ففرحوا به وأدخلوه أسوار مدينتهم المحصنة التي لم تتمكن جيوش العدو من اختراقها، وما دروا أن جيشا كامنا في جوف الحصان يتربص بهم، ينتظر ساعة الصفر ليفتك بهم ويحرق مدينتهم.

اليوم في ليبيا، مشاريع التنمية والإعمار المعلنة هنا وهناك، في الشرق والغرب على السواء، لست أرى فيها أكثر من حصان طروادة العصر الحديث، هدية الفساد الملغومة التي نتلقاها بفرح الغافلين، فما الذي تخفيه هذه المشاريع البراقة في جوفها؟

 

تخفي سرقات منظمة، وصفقات مشبوهة، وقيما مبالغا فيها إلى حد السخف، وغالبا ما تكون هذه المشاريع إما فاشلة لا تفي بالغرض، أو ضعيفة الجودة تنهار مع أول استعمال، أو حتى مشاريع وهمية لا وجود لها إلا على الورق وفي حسابات المسؤولين، وهم يملأون جيوبهم وجيوب أتباعهم من مليارات الدينارات المخصصة لهذه الأوهام التي تسمى مشاريع تنموية.

المواطن البسيط يفرح برؤية رافعة بناء أو شارع معبد أو جسر على طريق مزدحم، يظن أن الحياة ستعود، غافلا عن أن ثمن هذه الهدية المزيفة يدفعه هو من قوته وقوت عياله، فالتوسع الجنوني في الإنفاق على هذه المشاريع الوهمية أو المبالغ في أثمانها، هو وقود أساسي في نار التضخم التي تحرق قيمة الدينار الليبي يوما بعد يوم، انظر إلى سعر الصرف كيف يهوي، وانظر إلى خط الفقر كيف يزحف يوما بعد يوم ليلتهم فئات جديدة من الليبيين لم تكن تتوقع يوما الوصول إلى هذه الحال.

 

انخفاض قيمة الدينار يعني ببساطة انخفاض قيمة مرتبك، وانخفاض قيمة مدخراتك، وانخفاض قوتك الشرائية، بينما ترتفع الأسعار محليا وعالميا، وأنت تحصل على أشياء أقل بمال أكثر، هذا هو الثمن الحقيقي لمشاريع التنمية والإعمار وعودة الحياة التي أدخلناها بفرح إلى بلادنا، لنكتشف أنها تستنزف حياتنا وينفق عليها من دمائنا.

وللأسف، الحلول المطروحة لإيقاف النزيف أشبه بمن يريد إطفاء النار بالبنزين، فالفكرة الأبرز التي يتداولها مصرف ليبيا المركزي وديوان المحاسبة، ووافقت عليها الحكومات مبدئيا في انتظار اعتمادها لتطبيقها، ورفعها عقيلة صالح لمجلس النواب في جلسات غير معلنة مبشرا بأنها ستكون الحل السحري لأزمة التوسع غير المسبوق في الإنفاق؛ هي فكرة رفع الدعم عن الوقود، التي ما هي إلا وجه آخر لحصان طروادة، هدية تقدم لنا على أنها حل لوقف نزيف المليارات المهدرة، بينما جوفها يحمل دمارا جديدا للمواطن.

 

فرفع الدعم عن الوقود يعني مباشرة ارتفاعا جنونيا في أسعار كل شيء، النقل، الكهرباء، السلع الأساسية، كل شيء، فمن سيدفع الثمن؟ المواطن طبعا، وهو الضحية الأولى والأخيرة في معادلة الفساد هذه، خاصة في غياب أي شبكة أمان اجتماعي في ظل اقتصاد ريعي هش يعتمد على النفط وحده، وبهذا نقول إن المواطن الذي يعيش في الملحمة الليبية المعاصرة هو طروادة العصر الحديث، تحرق مدينته مرارا وتكرارا بجيوش الفساد المختبئة في أحشاء الهدايا المزيفة التي قبلها هو بنفسه وأدخلها إلى مدينته فرحا مسرورا.

 

من يصدق أن مشروع إعمار أو تنمية هو لصالحه، بينما يرى بأم عينيه كيف أن قادة الشرق والغرب يتسابقون على نهب المال العام باسم هذه المشاريع، يتسابقون على ملء الجيوب بينما جيوب المواطن تفرغ يوما بعد يوم، أليس هذا هو جوهر خدعة حصان طروادة؟ أن تفرح بالهدية الظاهرة وتغفل عن الجيش المختبئ الذي سيأكل مدينتك من الداخل.

 

حذار أيها الليبيون من مزيد من الهدايا الملغومة، حذار من هدايا الفساد المسمومة، حذار من الحلول التي تزيد الطين بلة، فقوتكم يسرق باسم إعمار بلدكم، ومستقبلكم ومستقبل أبنائكم يباع في سوق النخاسة بثمن بخس تحت شعارات براقة، ولتكن يقظتكم بحجم الخطر، ولتكن صرخاتكم ضد الفساد أعلى من زيف الإنجازات الوهمية، قبل أن نكتشف متأخرين أننا لم نكن سوى حالة أخرى سيتحدث عنها التاريخ بحثا عن معتبرين من حال أمة قتلت نفسها بنفسها؛ لأنها قبلت بسذاجة هدايا مسمومة مغلفة بوعود براقة لتنمية وإعمار وعودة حياة، لم تكن في الواقع إلا سرابا يحسبه الظمآن ماء!