ليبيا، بلد يصنع حكومات أكثر مما يصنع خبزاً!
لا تزال ليبيا، وبعد أربعة عشر عاما على سقوط نظام القذافي، غارقة في دوامة من الانقسامات السياسية والعسكرية التي حولت حلم الانتقال من الثورة (الفوضى) إلى الدولة؛ إلى كابوس معقد.
المشهد السياسي والخدمي اليوم يشهد تعقيدا مستمرا منذ سنوات في ظل وجود حكومتين متنافستين؛ واحدة في الغرب معترف بها دوليا، وأخرى في الشرق لا تعترف بها إلا دول قليلة جدا، ولكنها تستمد قوتها من حقيقة أنها تدين بالولاء لخليفة حفتر، وفي هذه الأثناء يحاول مجلس النواب – بدعم من كيانات داخلية وخارجية – تشكيل حكومة ثالثة يصر على وصفها بـ"الموحدة"، لكنها في الواقع قد تضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى أزمة نخشى أن تتحول إلى متلازمة دائمة في الحالة الليبية.
تتمركز الحكومة المعترف بها دوليا في طرابلس، ويرأسها البراغماتي عبد الحميد الدبيبة، وتستمد قوتها من سيطرتها على العاصمة وما تضمه من مؤسسات سيادية لا تدار دولة ريعية مثل ليبيا إلا من خلالها، مثل مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط، التي تعتبر شريان الحياة بالنسبة للاقتصاد الليبي.
هذه السيطرة المالية جعلت من حكومة الوحدة الوطنية لاعبا لا غنى عنه في المعادلة الدولية، رغم ضعفها العسكري النسبي أمام تحالفات الشرق، وأمام مجموعات عسكرية في الغرب كانت سابقا موالية لها، وفوق كل ذلك، تواجه هذه الحكومة اتهامات بالفساد وعدم القدرة على تحقيق الاستقرار، ما يجعل شرعيتها الدولية هشة في عيون الليبيين الذين بدأوا يخرجون بالآلاف في كل يوم جمعة للمطالبة بإسقاطها.
في المقابل، تشكل حكومة أسامة حماد في الشرق امتدادا لسلطة خليفة حفتر العسكرية، التي تعتمد على دعم دول إقليمية مثل روسيا والإمارات ومصر، ورغم افتقارها للاعتراف الدولي، فإنها تسيطر على جزء كبير من الجغرافيا الليبية، وتستفيد من تحالفات قبلية وعسكرية متجذرة، لكن عجزها عن الوصول إلى الموارد المالية يحد من تأثيرها، ما يجعلها رهينة الدعم الخارجي، أو لدعم وكلائها المحليين الذين ينفقون عليها من خلال شركة نفط وهمية أسسوها بالمشاركة مع خصومهم في غرب البلاد!!!!
وفي خضم هذا الاستقطاب، يدفع مجلس النواب ورئيسه –لاعب الاسكمبيل العريق- عقيلة صالح نحو تشكيل حكومة ثالثة تحت شعار "التوحيد"، بالتعاون مع فصيل من المجلس الأعلى للدولة (المقسم أصلا بين معسكري المشري وتكالة اللذان يتنازعان الشرعية)، لكن هذه الخطوة تعتبر مناورة سياسية أكثر منها حلا واقعيا، إذ أن كلا من الدبيبة في الغرب وحماد في الشرق سيرفضان قطعا التنازل عن السلطة، والأخطر من هذا أن هذه الحكومة المقترحة قد تصبح غطاء لتمديد الأزمة بدلا من حلها، خاصة مع رفض الأطراف الرئيسية الساعية لتشكيل هذه الحكومة الخضوع لانتخابات قد تقصيها من المشهد وتعبث بما حققته من مكاسب طوال أكثر من عقد من الزمان.
والمثير للاهتمام أن معظم المترشحين لرئاسة الحكومة الثالثة يدركون أنهم لن يحصلوا على سلطة حقيقية، إذ أن الدبيبة وحفتر يمسكان بالخيوط الفعلية، حاليا على الأقل، فما الهدف إذن من الترشح لرئاسة حكومة لن تحكم؟
أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال لا تخرج عن أمرين؛ أولهما: السعي للحصول على جزء من ميزانية الدولة، حتى لو كان رمزيا، عبر مناصب تتيح لهم الوصول إلى الموارد أو العقود، وبالتالي المشاركة في حفلة الفساد المفتوحة منذ سنة 2011.
وثانيهما: الترويج الذاتي، وتحويل أنفسهم إلى واجهات ضرورية في أي تسوية مستقبلية، سواء عبر مناصب سياسية أو تحالفات جديدة.
كما أنه من غير الممكن فهم تعقيدات المشهد الليبي دون النظر إلى تحالفات المصالح الإقليمية والدولية، فالدول الداعمة للأطراف المتصارعة – من تركيا وقطر إلى روسيا والإمارات ومصر – تجد في استمرار الأزمة ضمانا لتحقيق مكاسب جيوسياسية، مثل السيطرة على موارد الطاقة أو تعزيز النفوذ العسكري، أما النخب المحلية، فتعتمداستراتيجية إدارة الأزمة بدلا من حلها، لتحويل السلطة إلى مصدر دخل فردي وعائلي.
ورغم اعتقادنا بأن المناورات التي يقودها عقيلة صالح لتشكيل حكومة ثالثة ليست أكثر من قفزة بهلوانية لكسب الوقت وإبعاد شبح الانتخابات عنه وعن مجلسه؛ إلا أن النتيجة الأكثر ترجيحا في حال نجحت محاولة تشكيل الحكومة؛ هي تكريس التقسيم في ظلوجود ثلاث حكومات، فيتعمق الانفصال بين شرق البلاد وغربها وجنوبها، وستكبر بوادر الشك وعدم الثقة بين الليبيين، وستصعب إعادة اللحمة الوطنية.
وكذلك سيؤدي نجاح عقيلة صالح وفريقه في مسعاهم إلى زيادة سرعة انهيار فكرة الدولةالواحدة في عقول أبناء الشعب الليبي، وتآكل مبدأ الوحدة مع تعدد الشرعيات، وسيفقد الليبيون الثقة في أي كيان سياسي، ما يدفعهم نحو الولاءات المحلية أو المناطقية، مما سيؤدي حتما إلى تصاعد العنف، حيث تدفع المنافسة على الموارد والشرعيات الميليشيات إلى تصعيد عملياتها العسكرية لفرض سلطة الأمر الواقع.
المشكلة في ليبيا لا تكمن في عدد الحكومات، بل في غياب الإرادة الحقيقية لبناء دولة،فالنخب الحاكمة – شرقا وغربا – تتعامل مع السلطة كغنيمة، بينما تحولت المؤسسات الدولية إلى لاعبين في الصراع بدلا أن تكون وسيطا نزيها، والحل الوحيد يكمن في إجراء انتخابات حرة تحت إشراف دولي فعال يكون من شأنها توحيد السلطة وتجديد الشرعية المتآكلة، لكن هذا الحل يهدد مصالح كثيرين ممن هم في السلطة اليوم، مما يجعله أشبه بمستحيل، وعليه فإننا سنستمر في السير في نفس الحلقة المفرغة إلى أن تنفجر الاحتقانات التي انفجرت في فبراير 2011، أو أن يقرر أحد أطراف الأزمة خوض حرب جديدة مدفوعا بحلم الانفراد بالسلطة، وفي كل الحالات؛ لن يخسر إلا المواطن الذي سيدفع ثمن الفوضى أو الحرب، ولن تناله غنيمة السلطة.