تيتيه ترقص على حطام ليبيا!
نقلت وسائل إعلام محلية عن مصادر خاصة بها داخل أروقة اللجنة الاستشارية التي شكلتها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا مؤخرا، أن اللجنة ستصدر مقترحاتها النهائية بشأن النقاط الخلافية في القوانين الانتخابية خلال أيام قليلة، -ولعلها تكون قد أصدرتها قبل صدور هذا المقال- وقبل ذلك بأيام كشفت المبعوثة الأممية الجديدة إلى ليبيا، هانا تيتيه، في أولى جلسات إحاطتها لمجلس الأمن، عن مسار مزدوج لمواجهة الأزمة الليبية؛
يركز المسار الأول على إنقاذ الاقتصاد عبر تنفيذ حزمة إصلاحات عاجلة تشمل توحيد الميزانية الحكومية، ووقف الانقسام المالي بين الشرق والغرب، وتنفيذ توصيات مصرف ليبيا المركزي لوقف تدهور العملة المحلية؛ وتأتي هذه الخطوة كرد على تحذيرات من اقتراب الاحتياطي النقدي من مستوى الخطر، مع استمرار سحب العملات الأجنبية لتمويل الاعتمادات المستندية –الحقيقية والوهمية- والإنفاق الحكومي المتضخم.
وفي المسار الثاني، ستبدأ بعثة الأمم المتحدة دعوة الأطراف المتنازعة – وغيرها – لترشيح ممثلين في حوار سياسي جديد، وكعادة البعثة الأممية في استدعاء أسماء بلا أي ثقل محلي أو قاعدة شعبية؛ لن تقتصر المشاركة في الحوار على الفصائل المسيطرة حاليا، بل سيشمل كيانات وجهات لم تمنح صوتا في الحكومات الانتقالية السابقة، ولم تشارك في الرقص في حفلات الفساد المليارية.
ويهدف الحوار إلى مناقشة مقترحات اللجنة الاستشارية التي ذكرنا أنها ستقدم مقترحاتها النهائية خلال أيام، ويفترض أن ينتج عن الحوار المفترض؛ اختيار الخيارات القابلة للتطبيق لضمان إجراء الانتخابات.
ورغم إعلان تيتيه عن الجدول الزمني، فإن تفاصيل العملية السياسية ما زالت غامضة، ولا نعرف على وجه التحديد من هم أنصارها محليا ومن هم خصومها، كما أنه من غير المتوقع أن يتم الكشف عنها قبل ضمان عدم الاعتراض عليها من قبل أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، ومن خلال استقراء خطابات المبعوثة الحالية تيتيه وسابقتها ستيفاني خوري فإن الأرجح أن البعثة ستعتمد على الدعم الدولي أكثر من الدعم المحلي، أولا لانعدام الثقة بين الخصوم المحليين، وثانيا لأن الجميع يعرف أن معظم اللاعبين المحليين ليسوا سوى دمى تحركها أصابع وكلائهم الخارجيين.
والتجربة الليبية في هذا المضمار لا تخلو من سوابق محبطة، فبعد كل حوار سياسي، تعلن حكومة وحدة وطنية، تمنح صلاحيات توحيد المؤسسات وإعداد الانتخابات، ثم تنهار بسبب صراعات داخلية أو تحركات عسكرية، أو مناورات سياسية بنكهة قبلية مناطقية يقودها عادة مجلس النواب، الذي –وبسبب شرعية هشة اكتسبها في أروقة بوزنيقة- يتحكم في تعطيل الحكومات وحرمانها من الميزانية، وصولا إلى تشكيل حكومات موازية، لا يريد من خلالها إلا تعطيل الانتخابات أو تأخيرها على الأقل ومنحه وقتا إضافيا على حساب قوت يومنا ومستقبل أبنائنا، والخوف الأكبر الآن هو أن يصبح الحوار القادم نسخة مكررة من جنيف وتونس، مع تعديلات هامشية لا تغير من جذور الأزمة، فيتم تصغير الحكومة وزاريا وتضخيمها تكنوقراطيا، وإدخال أطراف وجهات ومناطق لم تشارك في الحكومات السابقة، مع تغيير الاسم والحرص على بقاء كلمة السر داخله، فكل حكومة يجب أن تضم في اسمها كلمة (الوطني) لنصدق حرصها على الوطن، ورغبتها في العبور به وبنا إلى بر الأمان.
وتشير الوقائع إلى أن أي تفاؤل يجب أن تغلبه نسبة أكبر من الشك والحذر، فطالما أن السلطة الحقيقية لا تزال بيد مجلس النواب، الذي يمتلك تاريخا حافلا في تعطيل الحلول السياسية عبر المماطلة والرفض المتكرر لأي مسار لا يضمن هيمنته؛ فإن الانتخابات ما تزال حلما بعيد المنال،
وبينما تحاول الأمم المتحدة توسيع دائرة المشاركة في الحوار، فإن نجاح المسار الجديد مرهون بقدرتها على تجاوز لعبة حق النقض التي يمارسها المجلس، عبر تحالفه مع قوى داخلية وخارجية ترفض أي تغيير يقلص نفوذها.
وفي المجمل فإن الخطة الأممية الجديدة تبدو وكأنها محاولة "عطار لإصلاح ما أفسده الدهر"، عبر ترقيع النظام السياسي القائم بإدخال حكومة جديدة تجهز لانتخابات سريعة، لكنها تتجاهل عوامل عميقة مثل، مثل انعدام الثقة بين الشارع الليبي والنخب السياسية، وتدهور الخدمات الأساسية وانتشار التشكيلات والمجموعات المسلحة وتغلغلها في مفاصل الدولة وحرصها على استمرار الوضع القائم، وكذلك تزايد النفوذ الأجنبي الذي يعقد أي مسار تفاوضي.
لذا، حتى لو نجحت الخطة في تحقيق انتخابات –وهو أمر مستبعد جدا- فلا ضامن لأن تكون الانتخابات بوابة للاستقرار، لا مجرد إعادة إنتاج للأزمة في شكل جديد.
ونظرا لتردي الأوضاع الاقتصادية مؤخرا، ولوصول معظم الليبيين لمرحلة القبول بأي تغيير من باب أنه لن يكون أسوأ من الموجود حاليا، ولأن "تغيير السروج فيه راحة"؛ فإن المسار الأممي الجديد يحمل بصيص أمل، لكنه يتحرك فوق أرضية هشة، فالإصلاح الاقتصادي قد يخفف الأعراض دون أن يعالج المرض، والحوار السياسي قد ينتج حكومة لا تحكم إذا لم يرافقه تغيير في قواعد اللعبة.
ويبقى التحدي الحقيقي هو كسر الحلقة المفرغة التي ندور فيها منذ أكثر من عشر سنوات عبر اجترار الحكومات الواحدة من بطن الأخرى، وصياغة حل دائم عبر إبعاد كل الموجودين على الساحة حاليا لأن تكرار التجارب الفاشلة لا يمكن أن يؤدي إلى النجاح، ولأن المستفيد من المشكلة لا يمكن الاعتماد عليه لصياغة حل لها.