السياسي

الضرب للمحاميد والثني لغومة!

الضرب للمحاميد والثني لغومة!

الضرب للمحاميد والثني لغومة!

 

 

عرف عن تاريخ ليبيا الطويل والمرير؛ قصص بطولية وحركات تحررية قادها الشعب في وجه الطغيان والاستبداد والاستعمار، ومن بين هذه القصص كانت ثورة المحاميد، التي قدم فيها أبناء القبيلة أرواحهم ونضالهم ضد قوات العثمانيين، بينما نال القائد غومة المحمودي الثناء والتمجيد وخلود الذكر.

تروي الحكايات كيف تحمل المحاميد وطأة المعارك وتلقوا الضربات، بينما نُسب المجد لغومة وحده باعتباره القائد، في مجاز يوضح ميل التاريخ إلى تمجيد القادة دون أن ينصف الجماعات التي حاربت بشجاعة وتحملت التكلفة الأعلى.

 

تتطابق هذه الحكاية الشعبية مع فكرة مشهورة طرحها الفيلسوف والكاتب الأمريكي نعوم تشومسكي، الذي يقول إن (تحريف التاريخ وجعل الناس يعتقدون أن الرجال العظماء هم من أنجزوا كل شيء هو جزء من طريقة تعليم الناس أنهم لا يستطيعون فعل شيء، وأنهم ضعفاء، وعليهم فقط انتظار رجل عظيم ليقوم بذلك)

 

قد يغفل الكثيرون دور المحاميد وغيرهم من الأفراد والجماعات في صنع هذا النضال الشعبي، وكأنهم مجرد أدوات بيد القائد العظيم، فتمحى من الذاكرة الوطنية ملاحم وملامح أولئك الذين دفعوا ثمن الحرية بدمائهم، تمحى أسماؤهم ويخبو ذكرهم، ويُكرس بدلا من ذلك صورة القائد الذي جاء ليخلص أبناء الشعب وينقذهم من المستبدين، وهنا يكمن الخطر الأكبر: اعتقاد الناس أن حريتهم ومصيرهم بيد قلة من العظماء، وأنهم وحدهم لا يملكون القدرة على التغيير.

هنا لا نغفل الدور العظيم للقائد غومة المحمودي، ولا ننقص من أهميته، ولكن لماذا أغفلت الذاكرة الشعبية الدور العظيم لأبناء قبيلة المحاميد والقبائل الأخرى، والذين لولاهم لما عرفنا غومة، بل ولما ثار غومة أصلا.

 

التاريخ يظهر لنا في مواضع عديدة أن الحقوق لا تمنح، بل تؤخذ بقوة الإرادة والشجاعة، وأن انتظار المخلص أو القائد (الملهم) ما هو إلا سراب أنشئ بواسطة آلة الاستبداد الإعلامية، فالمستبد يسعى جاهدا لتقزيم دور الشعوب، وتعظيم حجمه وتجميل شكله، ليبقى هو فقط المهيمن والمسيطر وصاحب السطوة والجاه، محرر الشعب من الاستعمار والاستبداد، قائد الثورة، والمفكر الملهم، ولتنمو أسطورة القائد المنقذ في نفوس الناس الذين ينتظرون ولا يبادرون.

ربما تكون حالة ليبيا خاصة ببانوراماها الفريدة وفسيفساءها النادرة، ولكنها تعكس أيضا ما يجري في شعوب كثيرة عبر العالم، فقد شُبّعت الأذهان بفكرة العجز الفردي والجماعي، وأصبحت الجماهير تترقب "المخلّص" الذي يطرد الطغاة ويعيد لها حقوقها، والحقيقة التي يسعى المستبدون إلى إخفائها هي أن التغيير الحقيقي لن يأتي من فرد أو قائد، بل من قوة الشعب وإرادته الجمعية.

 

لن يتحقق التحرير الحقيقي للشعوب إلا عندما تدرك أن التحرير يبدأ بوعيها بحقوقهاوشجاعتها على المطالبة بها، وقدرتها على التغيير، بعيدا عن الأوهام التي تحصر الإنجاز في يد القادة العظماء، فالتاريخ يكشف لنا أن أعظم الإنجازات لم تكن إلا نتيجة لإرادة جماعية، قادها أفراد واعون بحقوقهم ومصممون على تحقيقها.

إن الثورات الناجحة وحركات التحرر التي أنتجت شعوبا متحررة، قاد فيها القادة جموعا واعية وجماهير حريصة على استيفاء حقوقها، أما الثورات التي تعلق صور القادة، وتنصب لهم التماثيل؛ فليست أكثر من إعادة تدوير لقمامة الاستبداد.

وبذلك، فإن إعادة قراءة التاريخ بشكله الصحيح وتثقيف الناس حول قوتهم ودورهم في التغيير يُعتبران أولى خطوات التحرر الحقيقي، وتبقى قصة المحاميد وغومة تذكيرا بأن النصر لا يكون لأسماء القادة، بل للشعوب التي لا تنتظر وتعرف أن حقوقها تستحق النضال.

 

 

بهذه الرسالة، قد يدرك الليبيون وشعوب العالم أنهم القادرون على تغيير مصيرهم بأيديهم، وأن انتظار القائد لم يكن سوى وهم أوجدته أنظمة الاستبداد لتخدير إرادتهم وتكبيل أحلامهم.