السياسي

في ليبيا فقط، الجثث تتكلم!

في ليبيا فقط، الجثث تتكلم!

في ليبيا فقط، الجثث تتكلم!

 

بين عامي 2012 و2014، قرر أحد المتنفذين في نظام بشار الأسد العسكري أن يبدأ في توثيق مادة مصورة لآلاف المعتقلين السوريين الذين قضوا تحت التعذيب في سجون الأسد النازية، يبدو أن هذا الشخص لم يعد قادراً على تحمل هذا الكم الهائل من البشاعة، فخرجت إلينا لاحقاً ما عُرف بملفات قيصر. 

(قيصر) هو اسم مستعار استخدمه هذا الشخص لإخفاء هويته، في نقل تلك المادة المصورة، التي توثق جرائم القتل الوحشية بحق آلاف السوريين، إلى صديق له سمى نفسه حينها (سامي)، وهو أيضاً اسم مستعار، قام سامي بأرشفة وتنظيم هذه المواد، وخرجت الملفات للعلن في أواخر عام 2014، بعد أن تمكن هو وقيصر من الهروب من سوريا، أسهمت هذه الملفات بشكل كبير في إدانة نظام الأسد النازي أمام المحاكم الدولية، وفرضت عليه عزلة دولية خانقة، وبعد إحدى عشرة سنة، عرفنا سامي في لقاء تلفزيوني على قناة الجزيرة، بينما لا يزال قيصر يحتفظ بهويته طي الكتمان. 

لا أروي هذه القصة من باب التوثيق التاريخي، بل كمحاولة لفهم حديث سامي، الذي ركز طوال الحلقة على كيفية ترتيب الأدلة وحفظها، لإدانة نظام الأسد وتقديم المتورطين إلى العدالة، لفتني حرصه على عدم تقديم أي تنازلات تحت مسمى المصالحة مع المجرمين، ووعيه العميق بأن سقوط الأسد لا يعني سقوط النظام، أدرك أن النظام المجرم لا يزال قائماً في سوريا، وأن اجتثاثه بالكامل يحتاج إلى جهد كبير وعمل مستمر. 

ولكن كلام سامي فرض عليّ سؤالاً مهماً: 

 أين أولئك الأشخاص الذين أفسدوا حياة الليبيين خلال 42 سنة من حكم القذافي؟ وبعيداً عن حلف الناتو وثورة فبراير، ألم يكن هؤلاء مجرمين؟ ولو فرضنا أن فبراير لم تحدث، وسنحت فرصة لمحاسبة رموز النظام السابق على جرائمهم، هل كنا سنقوم بذلك حقاً؟ 

هذه الأسئلة قادتني للتأمل في مفهوم المسؤولية داخل المجتمع الليبي، يبدو أننا، حتى في تعاملاتنا اليومية، نميل إلى تعويم المسؤولية، بحيث يصعب تحديد الجهة المسؤولة بدقة، فعلى سبيل المثال، إذا كان الابن صالحاً، يفتخر الأبوان بتربيته، ويؤكدان أنهما السبب في صلاحه، أما إذا كان سيئ الخلق، يبرران ذلك باستخدام عبارة (المربّي من ربّي)، للتنصل من مسؤولية تقصيرهما في تربيته، وإلقاء الأمر على القضاء والقدر. 

وعلى مستوى المؤسسات شبه الرسمية في ليبيا، نجد أن أغلب التحقيقات الإدارية المتعلقة بالمخالفات تنتهي بتحميل المسؤولية لمجموعة، تحت مبدأ (المسؤولية الجماعية)، لا يتم تحديد المسؤول الحقيقي، ويتضح هذا النمط مثلاً في قضية فيضان درنة، قائمة المتهمين تجاوزت العشرين شخصاً! هذا يعكس بنيان النظام الإداري في ليبيا، حيث تظل المهام مبعثرة، والتخصصات متداخلة، في المغنم، هناك مسؤول واحد يتصدر الصورة، بينما في المغرم، المسؤولية موزعة بين الجميع! 

حتى عندما قررنا تأسيس دولتنا بعد الاستعمار الإيطالي والصراع الداخلي، تهربنا من تحمل المسؤولية. أطلقنا عبارة (حتحات على ما فات)، لنكتشف بعد أكثر من نصف قرن أن (ما تحتحت شيء). على العكس، تفتت الليبيون أكثر فأكثر. واليوم، لا تكاد تجد جزءاً من الأرض الليبية يخلو من شخص يشعر بالظلم، أو من جماعة -قبيلة أو عرقاً- تعتقد أنها تتعرض للاضطهاد، ولكن إذا كان الجميع مظلوماً، فمن هو الظالم؟ 

من قتل الليبيين في سجون الظلام طوال نصف القرن الماضي؟ من قتل الجثث التي نخرجها كل يوم من ترهونة؟ من قتل المواطنين الذين ألقيت جثثهم على شواطئ طرابلس طوال السنوات الاثنتي عشرة الماضية؟ من قتل تلك الجثث التي كانت تُرمى في شارع الزيت ببنغازي؟ ومن قتل الناس في المستشفيات العامة على مدى الستين سنة الماضية نتيجة نقص الإمكانيات؟ 

ما أعتقده هو أن كل من تقلد منصباً عالياً، أو يطمح لذلك، في السلطة الليبية، لا مصلحة له في إرساء نظام عدالة حقيقي، حيث يخضع المخالفون والمجرمون للمحاسبة عاجلاً أو آجلاً.

 لذلك، لا تجد أحداً ممن يتولون السلطة يسعى بجدية لمحاسبة من سبقه، لا يتجاوز الأمر مسرحيات محاكمات شكلية تنتهي دون إدانة حقيقية، فمنذ اثنتي عشرة سنة، لم يصدر حكم قضائي قطعي ونهائي بحق أي مسؤول في نظام القذافي، بل تم الإفراج عن معظمهم بدعوى (الوضع الصحي)، ومن تبقى في طريقه للخروج! 

إن مجتمعاً يعجز عن تحمل مسؤولية تربية أبنائه، ويلقي باللوم على القدر، لن يستوعب يوماً مفهوم العدالة، ستبقى الجثث التي تراكمت خلال الستين سنة الماضية بلا قيصر، بينما تنتظر الجثث التي تتجول اليوم في الشوارع مصيرها المحتوم، الذي قد يتحدد فقط بـ الحظ، الحظ وحده هو الذي يسمح لها بمواصلة السير، أو يجعلها تلتحق بمن سبقها. 

لهذا، كلما رأيت مجموعة من الجثث في شوارع ليبيا، لا تقترب منها قبل أن تسألها: (هل تعرفون ملفات قيصر؟).