الأقتصادي

الأزمة الليبية.. الاتفاقات المعلقة والحلول التلفيقية

الأزمة الليبية.. الاتفاقات المعلقة والحلول التلفيقية

الأزمة الليبية.. الاتفاقات المعلقة والحلول التلفيقية

شهدت الأزمة الليبية منذ بدايتها سلسلة طويلة من المحاولات الرامية إلى إيجاد حلول سلمية، سواء من خلال المفاوضات المحلية أو التدخلات الدولية، ورغم تعدد الاتفاقات بين الأطراف المختلفة، فإن معظمها لم يكتب له النجاح ولم يترجم إلى واقع ملموس على الأرض، وظلت هذه الاتفاقات معلقة وغير قابلة للتنفيذ، مما أدى إلى استمرار الفوضى وعدم الاستقرار.

وما يزيد من تعقيد الأزمة هو أن الحلول التي تُعتمد في نهاية المطاف غالباً ما تكون حلولاً تلفيقية، تسعى إلى تحقيق تهدئة مؤقتة دون معالجة جذور المشكلات، وتعتمد أساسا على التوسط بين أطراف الأزمة لإيجاد أرضيات مشتركة تسمح لهم بإعادة التموضع، ومن ثم إعادة تدوير أنفسهم ليعودوا لواجهة الأمة التي لم يغيبوا عنها أصلا.

ولطالما كان هناك تفاؤل حذر عقب كل اتفاق جديد يوقع بين الأطراف الليبية، من اتفاق الصخيرات عام 2015 إلى الاجتماعات التي عقدت وتعقد برعاية الأمم المتحدة أو الدول الإقليمية، وكانت هناك محاولات لا تُحصى لإحلال السلام، ولكن المشترك بين هذه الاتفاقات هو أنها غالبا ما تصطدم بعوائق تجعلها معلقة في الهواء، وغير قابلة للتنفيذ، إما لاستماتة المستفيدين من الوضع الحالي في رفضها، أو لاستحالة تنفيذها أصلا، كقانون الانتخابات الذي أصدره مجلس النواب!

وفي ظل استمرار الانقسامات والصعوبات في تنفيذ الاتفاقات، تلجأ الأطراف المعنية إلى حلول تلفيقية وقتية لها مفعول المسكن الذي يخفف الألم لحظيا ولكنه لا يعالج الأعراض، هذه الحلول تسعى إلى تحقيق هدنة أو تسوية مؤقتة لكنها لا تتطرق إلى الأسباب الجذرية للأزمة، من الأمثلة على ذلك:

تقاسم السلطة المؤقت: يعتمد في كثير من الأحيان على تقسيم المناصب الحكومية بين الأطراف المتنازعة كحل وسط، لكنه يظل هشا وعرضة للانهيار، لأنه لم يكن مبنيا على تشريعات دستورية، أو على الأقل على ثقة متبادلة، بل هو مبني على ما يسمى (الشرف بين اللصوص).

إرضاء الأطراف الخارجية: في كثير من الأحيان، تكون الحلول مفروضة من الخارج لخدمة مصالح إقليمية أو دولية، وليس بناء على رؤية وطنية لحل الأزمة، ومع ذلك يتقمص كل طرف زي الوطني الشريف ويتهم خصومه بالخيانة، ويرميهم بممارسة أفعال هو أيضا يمارسها، كالاتهام الوقح بين طرفي الأزمة باستجلاب مرتزقة ومقاتلين أجانب، فكل طرف يتناسى المرتزقة في قواته ويبالغ في تخوين خصمه لأنه يجند المرتزقة ويرتهن البلاد لقوات أجنبية!

 

ولعل من أبرز القضايا الشائكة التي برزت مؤخرا هي مشكلة مصرف ليبيا المركزي، المؤسسة المالية الأهم في البلاد، حيث إنه المسؤول عن إدارة الشؤون المالية للدولة، ومع ذلك فهو ميدان تتجاذبه القوى السياسية المختلفة منذ أكثر من عقد من الزمان، وفي الآونة الأخيرة، عادت أزمة المصرف المركزي لتتصدر واجهة الأحداث وتحتل الصدارة في قائمة الأهمية لأزمات البلاد اللانهائية.

ولنقفز قليلا على الأحداث التي نعرفها جميعا، أقالة المجلس الرئاسي لمحافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير، رفض مجلس النواب ومعسكر خليفة حفتر وجناح خالد المشري من المجلس الأعلى للدولة، ودعم حكومة عبدالحميد الدبيبة وجناح محمد تكالة من المجلس الأعلى للدولة، إغلاق قوات حفتر النفط، ارتفاع الدولار ثم انخفاضه في السوق الموازية، تهديد الكبير للبلاد وشعبها بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم يعد لمنصبه، مطالبات دولية بوجود حل جذري للأزمة والبعد عن الإجراءات أحادية الجانب، لنقفز على كل ذلك لنصل إلى يوم الثلاثاء 25 سبتمبر 2024، حيث رعت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا اجتماعا بين ممثلين عن مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة لبحث إمكانية تعيين محافظ جديد للبنك المركزي، حيث تم الاتفاق على تعيين ناجي عيسى في هذا المنصب، ومع ذلك، فإن هذه الخطوة لن تمر بسلاسة.

هذا التعيين سيظهر معظم أطراف الأزمة منتصرين أمام قاعدتهم الشعبية، فسيتغنى أنصار حفتر بحكمته وقيادته في قرار إغلاق النفط الذي لولاه لم اتفق الخصوم على تعيين محافظ جديد، وسيتغنى أنصار المنفي بشجاعته وإصراره على عزل الصديق الكبير، وأنه صمد أمام كل الضغوط ولم يرضخ وتحقق له ما أراد فالكبير لن يعود، وسيصم أنصار عقيلة صالح آذاننا بدهاء الداهية بطل ليبيا في لعبة الإسكمبيل، سيادة المستشار، الذي رفض تعيين محمد الشكري أو عبد الفتاح غفار، ولم يرض إلا باستبدالهما، وفعلا تحقق له ما أراد، كما أن أنصار الدبيبة لن يرحمونا بالحديث عن دهاء رئيس الحكومة الذي خرج منتصرا من هذه المعمعة بعد إقصاء أشرس خصومه وأقواهم، الصديق الكبير.

غير أن هذا كله مرتبط بخطوات لاحقة قد لا يمكن تحقيقها، فبغض النظر عن موافقة عقيلة صالح وخليفة حفتر ومحمد المنفي وعبد الحميد الدبيبة على التعيين الجديد، فهي تبدو ضمنية، لأنه يحفظ ماء وجوههم جميعا ولا يخرج منه خاسرا إلا الصديق الكبير وحده؛ يبقى الاتفاق على تعيين ناجي عيسى مرتبطا بموافقة المجلس الأعلى للدولة، الذي يعاني أصلاً من انقسامات داخلية قد تعيق اجتماعه أو اتخاذ قرار بشأن الموافقة أو الرفض، هذه الانقسامات تعكس الأزمة الأعمق التي يعيشها الجسم السياسي.

فالمجلس الأعلى للدولة تحول إلى مجلسين برأسين، ولم يجتمع أي من المجلسين منذ مدة، كما لم يتوقف أي من الرأسين عن الإدلاء بالبيانات والتصريحات، وكل يدعي الشرعية المطلقة ويتهم خصمه بانتحال الصفة، هذا الانقسام سيجعل من شبه المستحيل على المجلس اتخاذ قرارات حاسمة، بما في ذلك المصادقة على تعيين المحافظ الجديد لمصرف ليبيا المركزي، وقد يؤثر عدم توافق أعضاء المجلس على مدى قبول أو رفض هذا التعيين، مما يجعل المصرف المركزي مجددًا ساحة للصراع السياسي، وهو ما قد يزيد من تعميق الأزمة المالية التي تعاني منها البلاد.

في ظل استمرار تعثر الاتفاقات وظهور حلول تلفيقية غير جذرية، يبدو أن الأزمة الليبية تتعمق أكثر وأكثر، وتبتعد بخطوات واسعة عن أي حل حقيقي، فالانقسامات الداخلية والمصالح المتضاربة تجعل من الصعب على أي اتفاق أن يرى النور أو أن يتم تنفيذه بشكل كامل، ويظل تعيين ناجي عيسى محافظا لمصرف ليبيا المركزي واحدا من تلك الأمثلة التي تعكس التعقيدات العميقة التي تواجهها ليبيا اليوم، في وقت يحتاج فيه البلد إلى حلول شاملة ومستدامة بعيدًا عن الحلول المؤقتة والمساومات.