الشقة الشقة..العرس العرس.. وانتحار صاحب البوطي ؟!
نبدأ مقالنا اليوم بمشهدين افتراضيين لشخصية افتراضية في زمنين مختلفين :
بطل قصتنا أو قصتينا –ولنسمه محمود- هو شاب ليبي متوسط الحال، في منتصف العشرينات من عمره، يعيش في إحدى المدن الليبية في حقبة الثمانينيات، ويجهز لحفل زفافه الميمون من ابنة عمه على الغالب، وسيعيش في غرفة في بيت العائلة لعدة سنوات حتى يستطيع تكوين نفسه وتأمين سكن مستقل، لم يكن هذا الأمر يمثل عيبا بالنسبة لمحمود وعائلته في تلك الفترة، ولم يكن يمثل سببا للرفض أو حتى للتردد بالنسبة للعروس ولعائلتها، فهذا هو العرف السائد.
ما يشغل بال محمود حقا هو التجهيز للعرس، الولائم والمآدب والضيوف والخيم والفرقة والبوطي!
فغرفة النوم والمهر و(البتات) تكفلت به العائلة وانتهى أمره، وبهذا انتهى الجزء الأول من المشهد الأول.
في الجزء الثاني؛ يظهر شخص ببدلة عربية رثة، ثنى أكمامها حتى مرفقيه، ورفع الجانب الأيمن من سروالها حتى الركبة وربط (فوطة) على رأسه وهو يرفع عقيرته بالصياح؛ (طلعوا القصاع، جيبوا المشروب، أرفع مالقي امية للي في نص الخيمة، برا صفي على عمك....)، والكل يتسآل عن هوية هذا الشخص وسبب نشاطه.
يمثل هذا الشخص فكرة منقرضة في الميثولوجيا الليبية، إنه ابن عم صاحل البوطي، ويستمد هذا الشخص نفوذه وأهميته من نفوذ ابن عمه، فالبوطي –في زمن البساطة والبسطاء- كان من أعمدة العرس ومن أهم ركائزه، وتمثل لحظة وصوله البداية الفعلية لكرنفال العرس وما يصاحبه من أنشطة واحتفالات وولائم، ولكن مع تحول الأحوال وتغير الأولويات، أصبح البوطي وصاحبه وابن عمه قصصا تروى عادة للفكاهة والتندر، واختفى البوطي من مناسباتنا نهائيا، فالعرس أصبح ساعة في صالة أفراح أو في ساحة مسجد، ولم يعد ذلك الكرنفال الذي يستمر أسبوعا أو أكثر، مع ما يتخلله من ولائم وألعاب واحتفالات.
في المشهد الثاني؛ نلتقي ببطل قصتنا –محمود- ولعله ابن محمود الأول؛ فمحمود الأول تزوج في منتصف الثمانينيات، ومحمود الثاني ولد في منتصف الثمانينيات ويبلغ من العمر اليوم حوالي أربعين سنة.
يقف محمود اليوم في منتصف قطعة أرض تمكن أخيرا من شرائها؛ مساحتها 200 متر مربع، وتقبع في أقصى أطراف مدينته، يمسك محمود خريطة البناء في يده ويفكر في الخطوة القادمة، هل يبدأ مشروع البناء أم ينتظر انخفاض أسعار الاسمنت ومواد البناء، نصحه أحد أصدقائه بالقول (توكل على الله الأسعار معادش بتنزل وكل يوم في الزايد)، بينما طمأنه آخر بأن ارتفاع الأسعار مؤقت، وستنخفض فور انتهاء أزمة الكهرباء في الصيف وعودة المصانع للعمل.
بلغ محمود الأربعين من عمره، ولم يعد في وسعه الانتظار أكثر من ذلك، كما أن خطيبته تلوح بإمكانية تركه، خاصة مع تقدمها هي الأخرى في العمر واقتراب قطار الزواج من آخر محطاته بالنسبة لها.
جلس محمود يتذكر حديث والدته عن صبرها في غرفة في بيت أهل زوجها لمدة عشر سنوات حتى تمكن والده من تأمين ثمن بيت انتقلوا إليه، وكيف أن ذلك كان هو (السبر) في زمنها، وكيف أن الناس لم يعودوا يراعون الحالة المادية لمن يتقدم لخطبة بناتهم، وأنهم يشتطون في الشروط، خاصة شرط البيت المستقل الذي يعجز معظم الشباب عن تلبيته في وقتنا الحاضر.
انتهى المشهد الثاني بصورة محمود يجلس مهموما في قطعة أرض في أقصى أطراف مدينته، لا يملك ما يكفي من مال لبناء بيت أحلامه فيها، ولا يملك رفاهية التخلي عن حلمه لمطاردة ما تبقى من نزوات شبابه، رغم أنها أرخص من قطعة الأرض ومن تكاليف البيت بل ومن قنطار إسمنت ربما.
يمثل محمود الثاني في سرديتنا معظم الشباب في سن الزواج اليوم، فالشاب مطالب بتوفير شقة خاصة له ولزوجته مع ما في ذلك من صعوبة قد تصل في ظل انفجار الأسعار الحالي إلى درجة الاستحالة، فأسعار العقارات في المناطق القريبة من المدن أسعار فلكية لا يتحملها إلا الأثرياء، بل قد يعجز حتى الأثرياء عنها، فلا يعود أمام البسطاء إلى اقتناء أرض في أقصى أقصى أطراف المدينة، حيث لا تخطيط عمراني ولا طرق ولا خدمات ولا أي شيء، وعندما يبدأ في التخطيط لبناء بيته، تصفعه الأسعار على وجهه فترده على عقبيه إلى واقعه الذي يحاول الفرار منه، فأسعار مواد البناء بلغت أرقاما قياسية في الفترة الأخيرة ليتجاوز سعر قنطار الاسمنت الستين دينارا، ما اضطر كثير من الشباب إلى بناء بيوتهم بطريقة الربط بدلا من صب القواعد بالخرسانة المسلحة، لأن الربط – رغم خطورته المستقبلية- يمثل بديلا أوفر قليلا من اشتراء كميات كبيرة من الإسمنت بأسعار قد تتجاوز ما وفره الشاب لمشروع البناء بكامله.
عندما حدث التحول المجتمعي لرفض فكرة السكن في بيت العائلة – لسنا بالضرورة ضد هذا التحول- في بداية هذا القرن، لجأ كثير من الشباب إلى فكرة الإيجار، فقد كانت تمثل بديلا رخيصا لفكرة شراء شقة أو بناء بيت، ولكن مع الزيادة السكانية وعدم التكافؤ بينها وبين الزيادة العمرانية؛ بدأت أسعار الإيجارات في الارتفاع لقيم غير مسبوقة، وأصبح معظم الشباب عاجزون عن دفع قيم الإيجار لشقق في وسط المدن، بل إن دواوين المحاكم تسجل أعدادا كبيرة جدا من حالات الطلاق نتيجة عجز رب العائلة عن الاستمرار في دفع قيمة الإيجار الذي يرتفع باستمرار وترتفع معه أسعار كل شيء حتى يصل الزوج لنقطة العجز عن الاستمرار في الإنفاق على عائلته فتطلب زوجته الطلاق، أو قد يصاب بالإحباط والاكتئاب لعجزه عن القيام بواجبه فيقدم على الانتحار، أو يصاب بعقدة نفسية ليتحول إلى مخبول يتجول في الشوارع على غير هدى.
ومع عجز معظم الشباب عن الزواج في سن الزواج، وتحول سن الزواج من العشرينات كما كان في جيل محمود الأول، إلى الأربعينات في جيل محمود الثاني؛ بدأت تظهر في المجتمع ملامح تحولات جانبية ذات تأثيرات سيئة، فيسعى الشباب لإشباع رغباتهم المكبوتة إلى ارتكاب محرمات شرعية وممنوعات قانونية ومكروهات اجتماعية، وتنتشر فاحشة الزنا والاغتصاب واللواط لتحل محل فضيلة الزواج، فالفواحش أرخص من التكاليف الباهظة للفضيلة، ومشروع شراء قطعة أرض وبناء بيت يتجاوز تكاليف عشرات الرحلات إلى بلدان مجاورة لاختلاس ساعات من المتعة الرخيصة.
لم يكن من واجب الحكومة فتح صندوق دعم الزواج لترغيب الشباب في الزواج، فهم راغبون فيه بحكم تركيبتهم الفطرية، ولكن من واجب الحكومة دعم حالات الزواج القائمة وتوفير أسباب الاستمرار لها، من واجب الحكومة أن تبني المساكن والبيوت وتخطط القرى والمدن، وتوفر مواد البناء بأسعار في متناول مواطنيها، من واجب الحكومة أن تبني مجتمعا صحيحا نفسيا وسلوكيا، وذلك لا يتأتى مع عشرات الآلاف من العاجزين عن الزواج والمكابدين لكبت رغباتهم، ومع آلاف المطلقين والمطلقات الذين يقضون أوقاتا في قاعات المحاكم كان أولى أن تقضى في ساحات الترفيه مع أبنائهم، ليس من واجب الحكومة أن تقيم الأعراس وتعيد صاحب البوطي، ولكن من أهم واجباتها بناء الشقق والبيوت ليبني أبناء شعبها حياتهم بدلا من قضائها في المحاكم أو المواخير.