السياسي

رحبوا معي بالنسخة ( الجبريلية ) لعبد الحكيم بلحاج!

رحبوا معي بالنسخة ( الجبريلية )  لعبد الحكيم بلحاج!

رحبوا معي بالنسخة ( الجبريلية )  لعبد الحكيم بلحاج!

 

كاسندرا ابنة بريام وهيكوبة، ملك وملكة طروادة في الأساطير اليونانية. ووفقًا للأسطورة، فإن كاسندرا كانت فائقة الجمال إلى حد أن أبولّو (إله يوناني قديم) وقع في هواها، وزعم أنه وهبها القدرة على التنبؤ بالمستقبل، غير أن كاسندرا لم تبادله الحب، فقام أبولّو غاضبًا بمعاقبتها بأن أصدر أمرًا للجميع بألاّ يصدق أحد منهم نبوءاتها ، وكانت كاسندرا قد حذرت مواطنيها مرارًا بعدم الاستمرار في أسر هيلين الطروادية، وبعدم إدخال حصان طروادة داخل أسوار مدينة طروادة؛ لأن ذلك سيجلب الشر، لكن أحدًا لم يُلقِ بالًا لما تقول. وصدقت نبوءتها، حسب الأساطير، فسقطت طروادة في أيدي الأعداء.

استمعتُ بإنصات لحلقة السيد عبد الحكيم بلحاج أمير الجماعة الليبية المقاتلة عبر بودكاست "أثير" على قناة الجزيرة، وذلك لأننا من أنصار أن يحكي كل شخصية مرت على ليبيا، وكان لها دور في إدارتها تجربته. دعك من كون السيد عبد الحكيم بلحاج رجل النضال الشريف، والخصم العادل، ودعك أيضًا من كون الجماعة الليبية المقاتلة جماعة سماتها أقرب لسمات صحابة رسول الله، فمن حق كل إنسان أن يحكي روايته الشخصية عن نفسه، وليس لنا أن نحكم على النوايا، بل لنا الظاهر، والظاهر عاصرناه ورأيناه خلال الاثنتي عشرة سنة الماضية، ولنا قصة سنرويها ذات يوم.

إلا أن ما لفت انتباهي في هذه الحلقة هو خطاب عبد الحكيم بالحاج لليبيين حول رؤيته للحل في ليبيا، حيث من  الساعة السادسة وثلاثين ثانية، بدأ بالحاج في سرد رؤيته القائمة على مشروع وطني جامع لليبيين، وتناسي الخلفيات الأيديولوجية، إسلامية أو علمانية، سبتمبر أو فبراير، كما أنه أكد أن ليبيا هي الباقية، وأن الجميع راحلون، وأنه يجب أن نتنازل من أجل الوطن، وأن نجلس على طاولة الحوار، كون هذه الطاولة هي المسار الوحيد الذي يوصلنا إلى بر الأمان، وأن الجميع شركاء في الوطن، وأن نزعة الوطنية لا يملك أحد أن يستأثر بها عن الآخرين، وأن ليبيا للجميع وبالجميع.

في هذا الجزء من اللقاء، وأنا أسمع هذا الكلام، لم أرَى أمامي إلا الدكتور محمود جبريل، ولكنني مؤمن أن الأموات لا يُبعثون أحياء إلا يوم القيامة، ومؤمن أيضًا، أن أعمارنا مرتبطة بأفكارنا، وأن ما يبقى للإنسان إلا ما تركه من قيم ومنهج ومسار، لهذا أعتقد أن ما وصل إليه السيد عبد الحكيم بالحاج اليوم، يبدو أنه وجماعته لم يكونوا يؤمنون به قبل ذلك، لأن هذا الكلام قد قيل لهم قبل أكثر من عشر سنوات، وقد تمت دعوتهم إلى طاولة الحوار الذي يدعو إليها الآن، ولكنهم كانوا يعتقدون حينها أن القدر قد وكلهم حراس على ليبيا، وأنهم وحدهم هم وشركاؤهم من الإسلام السياسي (هكذا يوصفون) هم الأحق بحماية ليبيا وإدارتها، وقد بذلوا في ذلك الجهد كله لإقصاء الجميع، دون استثناء وقد كنا شهودًا على ذلك.

قد يقول أحدهم، أن تصل متأخرًا أفضل من أن لا تصل، وليس من العيب أن تعترف بصواب أفكار غيرك، ففي النهاية الحكمة ضالة المؤمن وهو أحق بها أينما وجدها، لكن ما يزعج، هو عدم اعتراف السيد عبد الحكيم بالحاج بصحة هذه الأفكار في السابق، وباعتباره قد أنصف جلاديه في العديد من المواقف التي ذكرها أثناء الحلقة، فنرى أنه كان الأجدر أيضًا أن ينصف من آمن معه بمبدأ التغيير الذي جاءت به فبراير، ويذكر أن هذا المسلك قد دعا إليه جبريل وهو حي منذ اللحظات الأولى لفوز حزبه بالانتخابات، وقد دُعي له هو وحزبه وجماعته وشركاؤه في ذلك الوقت، لكنه رفضه بدعوى أن من اقترحه (علماني) حسب وصفه. 

كما أننا أمام سرد للتاريخ والأحداث، كنا في انتظار أن يعترف السيد عبد الحكيم بالحاج بأن من صنف الناس إلى مسلمين وعلمانيين، وقسم المجتمع لمؤيدين ومعارضين في انتخابات المؤتمر الوطني العام هو رفيقه في النضال والمراجعات (علي الصلابي) وشريكه السياسي السابق (محمد صوان) حيث الأول قسمنا لعلمانيين وإسلاميين، والثاني أكد أن من صوت لحزب جبريل هم من أتباع النظام السابق.

إن الملكية التاريخية لكلمة "ليبيا للجميع وبالجميع" خالصة لقائلها ومتبنيها سلوكًا وفكرًا، ونحن هنا لا نزايد على أحد فيها، أو من خلالها، لكن وجب التنويه لذلك لطالما نتحدث عن تاريخ الأحداث، فقد عايشناها لحظة بلحظة، وما زلنا نملك ذاكرة تصون هذه الأحداث.

لقد كانت هذه المقابلة حالة جديدة نعتقد أنها يجب أن تُدرس، حيث من تتبع سيرة وسلوك السيد عبد الحكيم بالحاج يعي أن الرجل تغير بشكل كبير، وهذا يؤكد أن العمل السياسي عمل تراكمي، يحتاج إلى الوقت، والاستمرارية، وتعنت الرجل وتصلبه في العديد من المواقف السابقة قد تغيرت، لدرجة أنه اليوم مستعد أن يناقش كل شيء، ومع أي شخص، من حفتر وصولًا إلى أخيه عبد الله السنوسي.

كانت لعنة كاسندرا الأولى  أنها ترى وتتنبأ، ولعنتها الثانية أن ما تتنبأ به يحدث، ورغم حرصها على شعبها، وصدقها في نصيحتها لهم، إلا أنهم لم يسمعوا لها، بل ونعتوها بالجنون والعته، وعندما سقطت طروادة، وقعت كاسندرا أول ضحية في الأسر، ورغم علمها بما سيحدث لم تهرب من المواجهة، كذلك أصحاب الرؤية في هذه البلاد، يعاقبون فقط لأنهم يستطيعون أن يروا في الظلام، لهذا كلنا فرحون للسيد عبد الحكيم بالحاج كونه تمكن من أن يُبصر أخيرًا، والله من وراء القصد.