السياسي

هل يمكن ان نعتبر ( المُفتي ) سياسيًا في ليبيا ؟

هل يمكن ان نعتبر ( المُفتي ) سياسيًا في ليبيا ؟

  

هل يمكن ان نعتبر ( المُفتي ) سياسيًا في ليبيا ؟ 

 

يقول تميم البرغوثي الشاعر الفلسطيني في إحدى تدويناته المرئية أن السلطة لا تبالي بالتناقض ما دام يفيدها. خذ هذه الأمثلة على مر خمسة عشر قرنًا من الزمان: كان الفرنجة في القرن الخامس الميلادي شعبًا جرمانيًا. دينهم كدين جيرانهم، يعبدون أودن كبير آلهتهم، ويسمونه أبا الجميع أو الأب الأعظم، ويجلّون ابنه إله الرعد ثور، وثور هذا مسلح بمطرقة مسحورة تدعى (ميولنير)، أصبحت مع مرور الزمن رمزًا للدين كله، كالصليب عند المسيحيين والهلال عند المسلمين. فحين أخذت المسيحية في الانتشار بين ملوك الفرنجة، باتوا يدفنون الصلبان ومطارق ثور سواء بسواء مع موتاهم، لأنهم لم يكونوا متأكدين أياً من الدينين هو الحق وأي رب سيلاقون بعد موتهم، فكانوا يحتاطون.

في عام 496، حين تنصّر كلوفيس الأول، مؤسس المملكة التي ستصبح لاحقًا فرنسا، كان شرط ذلك أن يتوجه البطريق ملكًا بسلطة الله رب إبراهيم، عوضا عن كونه ملكًا؛ لأن دماء ثور وأودن تجري في عروقه على عادة ملوك الفرنجة القدامى. بقي ملكًا بتعيين الرب هنا وهناك، وحكم الملتين في الدنيا وضَمِنَ الخلاصين في الآخرة ، في القرون اللاحقة، حين كان ملوك الفايكينغ القادمون من اسكندنافيا يتنصرون، كانوا يقبلون التناول من القساوسة، ويقدمون الذبائح لثور وأودن في الوقت نفسه، من باب الاحتياط كذلك. 

وحين ورد أبو سفيان إلى معسكر الأنصار والمهاجرين قبل الفتح ليسلم، اعتُبر حديث "من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن" اعترافًا بأن له مكانة ما ستبقى في الإسلام بوصفه سيد مكة السابق. فحين ملك ابنه معاوية الأمة، كان يقول "لا أحد كبني أمية ساد في الجاهلية وفي الإسلام". وبعد مقتل الحسين بن علي في كربلاء وورود نعيه إلى المدينة، ثارت الأوس والخزرج والمهاجرون على بني أمية، فأرسل يزيد بن معاوية جيشًا استباح المدينة ثلاثة أيام، ولم يكفّ حتى أخذ البيعة من أهلها على أنهم خدم ليزيد يحكم في دمائهم وأموالهم وأهلهم، وقتل الكثير من الصحابة. 

توضح هذه الأمثلة كيف أن السلطة غالبًا ما تتجاهل التناقضات الأخلاقية والدينية إذا كان ذلك يخدم مصالحها، ويحافظ على هيمنتها. 

من هنا نبدأ مقالنا حول شخصية كان لها دور سياسي أكثر من كونه دينيًا خلال السنوات الماضية، وهو (مفتي الديار الليبية الشيخ الصادق الغرياني) حيث لا أعتقد أن هناك حدثًا سياسيًا أو عسكريًا مر على ليبيا، إلا وكان للشيخ رأي فيه، ومع مرور الوقت يرى العديد أن مواقف وآراء الشيخ خلقت حوله تيارًا من الأتباع، يصنف هذا التيار في ليبيا حسب ما هو سائد بـ"تيار المفتي". 

لن تجد شعارًا واضحًا لهذا التيار، ولا مقرًا رسميًا، ولا هيكلية إدارية، أو خلفية أيدولوجية واضحة، هو تيار يتبع ما يتبناه سماحة المفتي، ويحدد توجهاته من الأحداث في ليبيا من زاوية نظر الشيخ. وما يجعلنا نقول هذا الكلام هو مؤشرات كبيرة جدًا تدعمها ملاحظات واضحة على تأثير هذا التيار على متخذي القرار في طرابلس خلال السنوات الماضية، وعلى بعض الجهات الأمنية أيضًا.

فقد بدأ الدور السياسي لسماحة المفتي مبكرًا، وتحديدًا في انتخابات المؤتمر الوطني العام، عندما خرج في يوم الصمت الانتخابي وتحديدًا الساعة الواحدة ليلاً، ليحرض الناس على عدم التصويت للدكتور (محمود جبريل) الذي كان يقود حينئذ حزبه (تحالف القوى الوطنية) والذي نعته حينئذ بالعلماني، وأن حزبه يحمل توجهات علمانية حسب وصفه، محاولًا التأثير في العقل الجمعي للمواطنين ، إلا أن الأصوات الانتخابية أثبتت عكس ذلك حيث انتصر حزب جبريل في الانتخابات بمعدل يعتبر تاريخيًا في بلد مثل ليبيا، ويرى العديد من الخبراء في مجال الانتخابات أن هذا الرقم من الصعب أن يتحقق في الفترة القادمة. 

كما يقول العديد من المتابعين إن ما يجعلهم يصنفون أتباع سماحة المفتي تيارًا سياسيًا هو مشاركتهم في الحكم، حيث يقول العديد من المتابعين السياسيين إن عضو المجلس الرئاسي السابق (محمد العماري محمد) كان ممثلاً لهذا التيار، ناهيك عن أن هناك من يرى أن كل تعليمات سماحة المفتي لأتباعه أثناء تعليقه على الأحداث في ليبيا تتحول في بعض الأحيان، لقرارات تخرج من قبل السلطة الحاكمة في ليبيا. 

أيضًا يرى العديد من المتابعين أن سماحة المفتي وتياره كان له دور مفصلي في تحريك بعض الحروب منها (حرب فجر ليبيا سنة 2014) حيث دعم بشكل كبير القوة العسكرية التي كانت تمثل مصراتة و(الثوار) كما وصفوا حينئذ أمام تشكيلات مسلحة محسوبة على مدينة الزنتان، وأخرجوا من مطار طرابلس، وطُورِدُوا حتى وصلوا إلى مشارف مدينة ككلة، كما كان له دور بارز أيضًا في دعم وتأييد القوات العسكرية التي كانت تقاتل ضد قوات الجنرال حفتر في شرق البلاد، والذي جرى تسميتهم في تلك الحقبة (بمجلس شورى ثوار بنغازي) 

 كما دخل في صراع كبير مع أصحاب التيار السلفي (الوهابي كما يحب مخالفوهم أن يصفوهم)، وذلك عن طريق الطعن فيهم واتهامهم أنهم يتبنون فكرًا مستوردًا وغريبًا عن المذهب المالكي الراسخ في تاريخ ليبيا والمنطقة بالكامل، كما دخل سماحته في صراع مع قوة الردع الخاصة، وذلك نتيجة أن القوة قد قبضت على مجموعة من أفراد مجلس شورى بنغازي المتهمين بالإرهاب كما أكدت القوة، لكن سماحته كان يرى أن هذا الإجراء هو امتداد لعدوان الجنرال حفتر على ثوار بنغازي كما وصفهم بالتالي قال عندها إن القوة حادت عن مرتكزات ثورة فبراير، وواجب تصحيحها. 

مؤخرًا مع حكومة عودة الحياة، كان لسماحة المفتي وتياره تأثير واضح في سير الأحداث في ليبيا، حيث زار رئيس حكومة عودة الحياة سماحة المفتي أكثر من مرة، وفي عهده قُبِض على مواطنين بتهمة ازدراء المفتي ودار الإفتاء، كما نُشر على منصات إعلامية كثيرة ، وقد بحثنا في قانون العقوبات عن هذه الجريمة ولم نجد لها أثرا. 

لا ينكر أحد من مريدي سماحة المفتي، أو من معارضيه علمه الكبير في الفقه المالكي فهو مُقدم في ذلك، لكن الخلاف كله حول دوره السياسي وتعليقاته عن الأحداث في ليبيا التي كانت دائمًا ما تثير الجدل، خاصة وأن هناك هالة دينية على كل ما يخرج منه، كونه يمثل الصورة الدينية للدولة، وهذا شأن من يتقلد هذا المنصب في كل أرجاء منطقتنا، لكن دائمًا كان السؤال المحوري الذي يطرحه العديد من المتابعين.

هل لو كان هناك أناس تبنوا موقفًا سياسيًا، مخالفًا لما تبناه سماحة المفتي، هل يعتبر ذلك طعنًا في دينهم؟ أو مخالفة لتعاليم الدين كون سماحته ممثلًا للدين في الدولة؟ 

نعتقد أننا قد نجد الإجابة في المقطع نفسه الذي بدأنا به هذا المقال، وعلى لسان تميم البرغوثي حيث قال: 

يقول الكثيرون بضرورة إخراج الدين من السياسة، ولكنني لا أعرف عصرًا من العصور، ولا بلدًا من البلدان خرج فيه الدين من السياسة تمامًا، أو خرجت فيه السياسة من الدين تمامًا. غاية ما هنالك أنهما يتنكران ويتلثمان، ثم يمتزجان امتزاج الماء بالماء، ويشكلهما السياسيون في خطابهم بما ينفعهم.

أقول إن إيمان السياسيين سياسي، ولا بد من فهمه على هذا الأساس، وهذا أمر قديم. فاسأل نفسك كلما واجهت خطابًا غيبيًا أو ماديًا: مصلحة من في هذه الدنيا يخدم؟ ثم انظر إن كان هذا يفيدك وأهلك وأمتك أم يضركم. هل يجمع أم يفرق؟ هل يقاوم الغزاة والطغاة أم يواطئهم؟ هل يعدل أم يظلم؟ خذ من ذلك أنبله وأجمله وأنفعه وأقربه إلى الحق، واحمِ نفسك، فأنت دائمًا أقوى منهم، وهم يعلمون ذلك، ويعلمون أنهم لا يقدرون عليك إلا بخداعك، فلا تنخدع.