في ليبيا ، الجميع ينزل تحت خط الفقر ؟
من أهم مهام الحكومات عادة إدارة موارد البلاد وأموالها والحرص عليها من الإهدار، والدفاع عن العملة الوطنية، وحمايتها من الانهيار، والدفاع عن المواطن من الأزمات والنكبات الاقتصادية، والحرص على توفير مصادر دخل متنوعة تسمح لأبناء البلاد بالحصول على الحد الأدنى من الحياة الكريمة.
في ليبيا يحدث العكس تماما، فرجال السلطة والمتنفذون في الحكومة، لا يتأثرون بالأزمات الاقتصادية، بل في الواقع هم يستفيدون منها، فيعملون على استمرارها لأجل استثمارها؛ ولننظر ماذا تفعل الأزمات الاقتصادية والاضطرابات السياسية في ليبيا؛ العامل المشترك بين كل الأزمات والنكبات والحروب؛ هو ارتفاع سعر الدولار في السوق الموازية، الذي يدعي مصرف ليبيا المركزي أنه يضطر بعده لخفض قيمة الدينار أو فرض ضريبة مضافة على بيع العملات الأجنبية، كي يحافظ على مخزون البلاد من العملة الصعبة، ومع محافظة المرتبات على قيمتها تكون النتيجة الحتمية لهذه التعديلات تخفيض خط الفقر ليشمل مئات الآلاف وربما الملايين من الليبيين.
وبما أن رجال السلطة والمتنفذين والقريبين من دوائر القرار والوزراء وحاشياتهم وأعضاء المجالس التشريعية وغيرهم؛ يحملون هم المواطن، فهم يسافرون في مهمات رسمية يحصلون من خلالها على آلاف الدولارات، وكلما زاد سعر الدولار زادت الغنيمة بالنسبة لهم، أما المواطن فكلما زاد سعر الدولار وزادت معه الأسعار زاد اقترابه من خط الفقر أكثر، هذا إذا لم يدخل تحته حتى الآن.
يقول البنك الدولي في آخر تحديث نشره لخط الفقر الدولي في سبتمبر 2022 إن المعدل الحالي للإنفاق والذي يعتبر من هو أقل منه تحت خط الفقر هو 2.15 دولار أمريكي للفرد الواحد يوميا،
ويقابل ذلك تقريبا بالعملة الليبية حوالي 15 دينارا يوميا، و451 دينارا شهريا للفرد الواحد، وإذا أخذنا معيارنا عائلة ليبية مكونة من خمسة أفراد، فإن هذه العائلة ستعتبر عائلة فقيرة إذا كان دخلها الشهري أقل من 2250 دينارا.
قبل فرض الضريبة الجديدة كان خط الفقر في ليبيا لذات العائلة المكونة من 5 أفراد هو 1600 دينار باعتبار مقياس خط الفقر العالمي، وبين 1600 دينار و 2250 دينار تقع عشرات الآلاف من العائلات الليبية كانت تعيش في مستوى مقبول ودون المتوسط، وبجرة قلم من الغني الصديق الكبير وبموافقة من الغني عقيلة صالح ونكاية في الغني عبد الحميد الدبيبة تحرك المؤشر ارتفاعا لأكثر من 600 دينار ليدخل هذه العائلات تحت خط الفقر، ولينزل آلاف العائلات الأخرى من المتوسط ودون المتوسط لتقترب من الفقر الذي هو مصيرها المحتوم، فإفقار العائلات التي سبقتها لإخضاع الدبيبة وإقصائه لم يؤت ثماره، والمتوقع خفض جديد لقيمة الدينار وخفض جديد لخط الفقر ليشمل عائلات ليبية أخرى حتى لا يبقى في البلد إلا فقير.
ومع ما يعيشه الناس يوميا من ارتفاع مضطرد لأسعار السلع الأساسية؛ لا زالت المصادر الحكومية تصر على أن معدل التضخم الرسمي هو 1.4% سنويا وفق إعلان مصلحة التعداد والإحصاء، هذه النسبة وصفها الباحث الأمريكي، ستيف هانكي، المحاضر في جامعة جونز هوبكنز عبر حسابه على موقع إكس، إنها (مزيفة) مؤكدا أن معدلات التضخم في ليبيا تزيد بنحو 26 ضعفًا عن معدل التضخم الرسمي وأنها تبلغ حقيقة 37% سنويًا.
وباعتبار هذه النسبة للتضخم فإن خط الفقر الفعلي في ليبيا يزيد كثيرا عن 2250 التي تحدثنا عنها، ومؤخرا قام عدد من الاقتصاديين في جامعة مصراته بدراسة لهذه الظاهرة خرجت بنتيجة أن خط الفقر الواقعي في ليبيا اليوم لعائلة مكونة من خمسة أفراد يزيد عن 2800 دينار، وهو رقم مرعب فعلا، فعدد كبير جدا من العائلات الليبية لها مصدر داخل واحد، وهو مرتب رب العائلة والذي قد لا يبلغ حتى نصف هذه القيمة، فكم هي نسبة العائلات الليبية الفقيرة اليوم؟
ومع ما تعانيه العائلات الليبية من تبعات لقرارات المسؤولين المؤتمنين على أموالها؛ زاد هؤلاء توغلا في إفقارها واحتقارها، فادعى محافظ مصرف ليبيا المركزي وجود ملايين الدينارات من العملة الليبية المزورة من فئة خمسين دينارا، فأمر بسحبها من التداول ما تسبب في أزمة سيولة حادة أعادت إلى الأذهان أزمة السيولة في سنوات 2016 وما بعدها، لنكتشف بعد البدء في سحب العملة كذب ادعاءات المحافظ الذي لم يحافظ، وأنه لا وجود لعملة مزورة، وأن ما قام به ما هو إلا مناورة رخيصة أخرى لضرب الحكومة والضغط على خصمه الحالي وحليفه السابق عبد الحميد الدبيبة.
ومع لعبة شد الحبل المستمرة بين أغنياء السلطة، يبقى الحبل ملفوفا على عنق المواطن البسيط، فكلما سحب أحد الأغنياء الحبل ليضغط على خصمه، سحق في طريقه عددا من الفقراء، ولم يؤثر على خصمه الغني إلا قليلا، ليرد خصمه عليه بسحبة تهز موقفه قليلا وتسحق في طريقها فقراء آخرين، وهكذا يبقى الفقراء النيام وقودا للحرب المشتعلة بين الأغنياء، تسحقهم المناورات ولا تلحقهم الغنائم.