شن قال النائب العام عن موضوع الرقم الوطني؟ وشن ما قالش؟
عقد النائب العام الليبي السيد الصديق الصور منذ أيام مؤتمرا صحفيا طال انتظاره ليعلن عن نتائج تحقيقات أجراها مكتبه حول قضية شغلت الرأي العام لسنوات طويلة؛ هي قضية الرقم الوطني وما أشيع عن عمليات تزوير واسعة النطاق شهدها هذا الملف الحساس، ومن أبرز تداعياته؛ إصدار وثائق مزورة لغير ليبيين، إصدار بطاقات انتخابية مزورة غير ليبيين، حصول غير الليبيين على مرتبات ومزايا تقدمها الدولة لمواطنيها وغير ذلك من أمور يراها الجميع مهمة ولكن أهمها عند الليبيين هو هل الهوية الليبية في خطر؟
لمحاولة الإجابة عن هذه التساؤلات سنحاول أن نحلل تصريحات النائب العام من محورين؛ ماذا قال وماذا لم يقل؟ (شن قال؟ وشن ما قالش؟)
أولا: شن قال؟
من أهم ما ذكره السيد النائب العام في مؤتمره الصحفي أن عدد الليبيين المسجلين في قاعدة بيانات الأحوال المدنية بلغ 8 ملايين و 617 ألف مواطن، ومن بين هؤلاء أثبتت التحقيقات وجود 88 ألفًا و819 رقما وطنيا غير مطابق لسجلات الأحوال المدنية، وأن أصحاب هذه الأرقام غير الصحيحة قد استغلوها للحصول على مرتبات ومنح من الدولة وصلت قيمتها إلى 208 ملايين دينار.
كما كشفت التحقيقات عن منح 48 ألف رقم وطني لغير الليبيين، مؤكدا أن هذه الأرقام قد أوقفت، فضلا عن وجود قرابة 64 ألف رقم وطني في منظومة الرقم الوطني دون تسجيلها في منظومة الأحوال المدنية.
كما تحدث عن تلاعب في تسجيل حالات الوفاة، مشيرا إلى وجود متوفين استفاد ذووهم من مزايا مالية منحت لهم بعد وفاتهم، كما تحدث عن وجود تزوير في منظومة منحة الأطفال ومنحة أرباب الأسر وغيرها، إضافة إلى 8690 شخصا يتقاضون مرتبات من الدولة بأرقام وطنية غير صحيحة، و 17472 رقما وطنيا غير صحيح تحصل أصحابها على جوازات سفر.
وتحدث أيضا عن التزوير الذي طال العمليات الانتخابية وتسجيل الناخبين، حيث أكد رصد 15 ألف بطاقة انتخابية مزورة خلال انتخابات المؤتمر الوطني في العام 2012، فيما بلغ عدد البطاقات الانتخابية المزورة في الانتخابات التي كان من المقرر أن تجرى نهاية العام الماضي 3829 بطاقة.
وبقدر ما كانت هذه الأرقام مفاجئة للبعض إلا أنها حقيقة أقل وبكثير جدا مما كان متوقعا، فالتقارير الإعلامية كانت تتحدث عن عمليات تزوير أسطورية بلغت أكثر من مليون رقم وطني، ومبالغات كبيرة تحدثت عن أسر كاملة تعبر الحدود شرقا وغرب وجنوبا لتحصل على أرقام وطنية وجوازات سفر ليبية، كما تحدثت التقارير الإعلامية (الكيدية) عن أرقام فلكية في نسبة التزوير التي طالت سجلات الناخبين.
والحقيقة أن حوالي 88 ألف رقم وطني غير مطابق لسجلات الأحوال المدنية ليس بالرقم الكبير مقارنة بـ 8 ملايين و 617 ألف مواطن تضمهم هذه السجلات، فالنسبة هنا لا تتعدى 1% ، أضف إليها أن ليس كل هذه الأرقام الـ 88 ألف هي أرقام مزورة، بل هي في الوقت الحالي أرقام غير مطابقة لسجلات الأحوال المدنية.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن جزءا من هذه الأرقام سيثبت صحته وجزءا آخر سيثبت تزويره.
ما الدليل على هذا الكلام؟ الدليل على هذه الكلام هو ما قاله النائب العام نفسه من أن التحقيقات شملت فقط البيانات الرقمية الموجودة في المنظومة الإلكترونية، وأنها لم تعرض حتى الآن لمطابقتها مع السجلات الورقية الموجودة في مقرات فروع السجل المدني في المناطق، وأكد السيد الصديق الصور أن لجانا ستشكل في المستقبل من مكتب النائب العام ومن مصلحة الأحوال المدنية لمطابقة البيانات الواردة في المنظومة الرقمية مع البيانات الأصلية الموجودة في السجلات الورقية.
وما زلنا في تحليل كلام النائب العام الذي ذكر أن التحقيقات التي استمرت منذ 2017 أسفرت عن اكتشاف تزوير وتلاعب أدى إلى استفادة من قام به بحوالي 209 مليون دينار، أي أن نسبة الهدر في المال العام –وهي إحدى أهم تخوفات الليبيين- ليست كبيرة، بل قد يجادل البعض بأنها غير ذات أهمية وأن ما كان متوقعا يفوق ذلك بكثير، خاصة إذا علمنا أن ما رصد للمرتبات من الميزانية التي أقرها مجلس النواب لسنة 2022م لحكومة باشاغا هو أكثر من 40 مليار دينار، إضافة إلى 26 مليار أخرى تنفق على أبواب الدعم المختلفة، وهي لا شك أموال تدفع من ميزانية الدولة دون عائد عليها، وإذا ما قارنا هذه الأرقام المخيفة بـ209 مليون دينار سرقت على مدار خمس سنوات تبين لنا أن حجم التهويل لموضوع التزوير ينطبق عليه المثل القائل (الجنازة كبيرة والميت فار).
ما قيل في الفقرة السابقة ينطبق أيضا على ما كشفه السيد الصور بخصوص المرتبات؛ حيث أن 8690 موظفا يتقاضون مرتبات بأرقام وطنية غير صحيحة هو رقم بسيط جدا مقارنة مع مليونين و14 ألف و908 مواطنين يتقاضون مرتبات من الدولة، وهذا الرقم هو ما أعلنه النائب العام في نفس المؤتمر الصحفي!
شن ما قالش؟
نحتاج لنعرف ما لم يقل النائب العام في مؤتمره الصحفي إلى قراءة ما بين سطور كلماته وما بين سطور التقارير التي حركت الرأي العام وبالتالي النائب العام للتحقيق، وبقراءة متأنية لهذه السطور والكلمات يتضح أن النائب العام أراد من خلال المؤتمر الصحفي طمأنة الرأي العام، فعلى الرغم من فداحة المبدأ ألا وهو وجود التزوير والتلاعب أصلا، غير أن النتيجة ليست بحجم ما تم التسويق له سابقا، فلا الأرقام المزورة كبيرة، ولا المبالغ المالية المهدرة بتلك الأهمية، إضافة إلى أن التقارير التي تحدثت عن أرقام مليونية ثبت أنها كيدية، غير أن التقارير المذكورة كانت متبادلة بين أطراف الأزمة كل يتهم خصمه بتزوير الانتخابات تارة وبالتغيير الديموغرافي للشعب الليبي تارة أخرى، وهنا لم يشر النائب العام إلى الفروع التي اكتشفت عمليات التزوير في سجلاتها، وأي مناطق البلاد شهدت أكبر عدد من تزوير الأرقام الوطنية، وأين هي العائلات التي عبرت حدود البلاد لتحصل على جوازات سفر؟ ومن أي حدود البلاد – شرقا أو غربا أو جنوبا – كان عبورها؟
أعتقد أن هذه التساؤلات في ظل الاستقطاب السياسي الذي أدى إلى استقطاب مناطقي أدى بدوره إلى حالة احتراب؛ كانت جديرة بالإجابة، وسكوت النائب العام عنها يطرح أسئلة أخرى حول حياديته شخصيا وحيادية مكتبه.
سؤال آخر مدفوع بالسؤال حول حيادية مكتب النائب العام؛ لماذا تحدث السيد الصديق الصور عن بطاقات انتخابية مزورة في انتخابات المؤتمر الوطني العام سنة 2012 وأخرى مزورة في الانتخابات التي كان من المفترض أن تقام العام الماضي، ولم يتحد عن بطاقات مزورة في انتخابات مجلس النواب سنة 2014 وانتخابات الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور في نفس السنة.
وبما أن قاعدة البيانات التي اعتمدت عليها المفوضية الوطنية العليا للانتخابات في عملية تسجيل الناخبين هي نفسها منذ سنة 2012، فإنه ومما لا شك فيه أن البطاقات المزورة ما زالت في السجلات حتى الآن أو أنه تم استبعادها، وبما أن الناب العام لم يتحدث عن ذلك، وبما أنه أقر أن التحقيقات بدأت سنة 2017 وانتخابات مجلس النواب حدثت سنة 2014 ، فإنه من نافلة القول إن إمكانية التزوير في سجلات الناخبين في انتخابات المؤتمر الوطني العام كانت موجودة في انتخابات مجلس النواب أيضا، فلماذا اكتفى النائب العام بذكر المؤتمر الوطني العام ولم يذكر مجلس النواب؟
غير أنه من الإنصاف أن نقول إن السيد النائب العام قد ذكر أنه لا يمكن الجزم بما إذا كان أصحاب البطاقات المزورة قد شاركوا في العملية الانتخابية أم لا لأن عمليات فرز الأصوات كانت يدوية، وتصريحه هذا ينفي اتهامه بمناوأة المؤتمر الوطني العام أو مجاملة مجلس النواب.
وختاما نصل إلى السؤال الأهم من وجهة نظرنا؛ هل الهوية الليبية في خطر؟
من خلال استقراء ما جاء في المؤتمر الصحفي للنائب العام؛ نستطيع أن نقول بدرجة مقبولة من التأكيد أنه إذا ما كانت هناك أخطار تتهدد الهوية الليبية فإن أهمها ليس تزوير الأرقام الوطنية، فوجود نسبة مشكوك فيها تمثل 1% فقط من عموم الأرقام الوطنية ليس بالأمر الجلل خاصة وأن هذه الأرقام المشكوك فيها غير مجزوم بتزويرها وأن هناك لجان أخرى ستشكل لاحقا لمقارنتها بالسجلات الورقية، وكما ستثبت هذه المقارنة تزوير بعضها؛ فإنها ستثبت صحة بعض آخر لم تدرج في السجلات الرقمية أو أهملت أو تم تأخير تسجيل وفاتها وغير ذلك.
إن الأخطار الأولى بالاهتمام التي تتهدد الهوية الليبية هي حالة الاستقطاب السياسي التي أوقدت على جمر الاتهامات المتبادلة بتزوير ملايين الأرقام الوطنية، وقسمت البلاد وكانت سببا في اندلاع حروب داخلية بدأت سنة 2014 ولن تنتهي بحرب 2019، وكذلك حالة التجريف الثقافي للموروث الليبي والتقاليد المحلية لحساب أفكار ومعتقدات وأيديولوجيات دخيلة يدعي أتباعها لها قداسة إلهية.
وختاما،، أرجو أن نتفق أولا على هوية ليبية قبل أن نبدأ في الدفاع عنها وتحديد وتحييد ما يهددها.