السياسي

ماذا تعرف عن لُغم الأمن ؟

ماذا تعرف عن لُغم الأمن ؟

ماذا تعرف عن لُغم الأمن ؟

 

تُرى أي مصير ينتظر النائب إبراهيم الدرسي؟ هل يصيبه ما أصاب زميلته سهام سرقيوة فيقتل أو يختفي للأبد؟ أم يصيبه ما أصاب فرج اقعيم فيسجن ويسحل ويعذب ثم يعالج جسديا وروحيا ويعاد تأهيله ويعود إلى الحظيرة مع باقي الأدوات الأليفة التي تبهج المستبد وتسعده، وتقمع مخالفيه وتذيقهم ما ذاقت من حنان الأب الطاغية؟

منذ نحو شهر من اليوم اختطف عضو مجلس النواب إبراهيم الدرسي في ظروف قيل إنها غامضة، ورغم غموض ظروف اختفائه إلا أن الجميع يعلم من المختطف ولماذا؟

في وقت نشر هذه الكلمات قد يكون الدرسي قد وجد حيا أو ميتا؟ أو ربما أطلق سراحه وعاد ليسبح بحمد القيادة؛ ولكن مهما كانت المآلات في هذه القصة فإننا في علاش لن نفوت الفرصة لنقول لكم (مش قلنالكم؟).

نعم، قلنا لكم مرارا وتكرارا، وتحدثنا في منصتنا المتواضعة أكثر من مرة عن الأمن ووهم الأمن، وأخبرناك يا حبيبنا المواطن البسيط وخاصة في شرق البلاد أن ما تعيشه هو وهم الأمن وليس الأمن نفسه، وأن الأمن نفسه موجه للمستبد وحاشيته، وأنك لم تقصد بهذا الأمن وإنما حصلت عليه بشكل عرضي، لأن المستبد ليحكم بلا منغصات يحتاج إلى نوع من الاستقرار، ولكن إذا أردت أن تختبر الأمن الذي تعيشه فجرب ولو لمرة أن تكون في جانب ما يعتبره المستبد منغصات، عندها ستفتح عليك كل أبواب الجحيم، وستختفي كل حقوقك وستصبح هدفا مستباحا تنهشك كلاب الطاغية من كل جانب، ولن يقف بجانبك حتى أقرب الناس إليك، فهم يؤمنون بحكمة (اللي ما يدير شي ما يجيه شي)، ولأن الطاغية وكلابه استهدفوك فهذا لأنك (أبصر شن درت).

ما حدث لإبراهيم الدرسي ليس حادثا فرديا أو معزولا، فقد حدث من قبله وسيحدث بعده، لأن الدكتاتور عادة؛ وخاصة في بداية ترسيخ سلطته لا يرسم حدودا واضحة للمنوعات والمنغصات، بل يترك الناس يكتشفونها بالطريقة الصعبة، تقع فيها فتقع في الشرك، تماما مثل من يسير في حقل ألغام، قد تنجو بحسن حظك، وقد ينفجر اللغم في وجهك عند أي خطوة تخطوها، أو في هذه الحالة عند أي كلمة تقولها، فيجعل منك المستبد عبرة لغيرك، ويعلم من خلفك في القطيع أن هذه الطريق ليست سالكة.

الرواية التي يتداولها الناس عن اختطاف النائب الموقر ذي الحصانة البرلمانية أنه احتج على قيام عناصر أمن أحد أبناء المشير بتفتيشه بطريقة فظة وامتهان كرامته قبل الدخول لمنصة الاحتفال بـ(عيد الكرامة)، وتقول الرواية أن الدرسي قد داس على لغم شديد الانفجار عندما لمح إلى سيطرة (الغرابة) على مفاصل الدولة في مضارب قبيلته وغياب (ضنا برقة) أو تغييبهم.

الموقف كما يقول من يرويه قد حدث بمرأى ومسمع من بعض الحاضرين، فكان لزاما على الحاكم أن يجعل هذا الأليف المتمرد عبرة لا غيره، ففي قانون الدكتاتور لن يشفع لك ولاؤك السابق إذا ارتكبت ما ينغص عليه، وعليك أيها المتملق أن تعلم أن بقاءك في حوض نعمة سيدك مرهون بدوام ولائك وتملقك له، ومتى ما ملت عن ذلك ولو قيد شعرة في لحظة غضب فقد نسفت كل رصيدك، بل واكتشفت أنه لم يكن لك رصيد أصلا.

قد يستغرب بعض المتتبعين للشأن العام من إخفاء الدرسي بهذه الطريقة الفجة مع ما سبق منه من ولاء مطلق لحكم حفتر وعائلته، فالرجل لم يسبق له أن تبنى أي موقف مخالف لموقف السلطة الحاكمة في الشرق، بل هو مؤيد بشكل مطلق ومدافع بشكل شرس عن حفتر ومواقفه وقراراته، تجده في مجلس النواب أو في القنوات الفضائية متحيزا بصورة عمياء لحكام شرق البلاد، شأنه في ذلك شأن زميلته في مجلس النواب سهام سرقيوة التي وقفت بجانب حفتر منذ انطلاق عمليته في بنغازي في منتصف عام 2014، ولم يعرف عنها مخالفتها له إلا في عدوانه على طرابلس سنة 2019، فداست على لغم متفجر بظهورها في شاشات الفضائيات وانتقادها لمليشيات حفتر وجرائمها في طرابلس، فتم اقتحام بيتها وخطفها، وما يزال مصيرها مجهولا حتى الآن، رغم تأكيدات غير رسمية بمقتلها.

ذات الأمر حدث مع عشرات النشطاء والمدونين بل والسياسيين المعروفين مثل فتحي البعجة وزملائه، منهم من أطلق سراحه ومنهم من قتل في السجن ومنهم من ينتظر أي المصيرين أقرب، وفي بعض الحالات الشاذة حصل تغير راديكالي للمختطف وأصبح أداة للجلاد يمارس بها الإرهاب الذي مورس في حقه، وهو ما حدث مع فرج اقيعم العبدلي، هذا الرجل الذي خرج في شاشات الفضائيات يتهم حفتر بمحاولة اغتياله، ويتهمه بتدبير الاغتيالات والتفجيرات التي برر بها حفتر عمليته العسكرية، اتهامات خطيرة جاءت من شخص متوهم ظن أن مكانته من قبيلته التي تعتبر من أكبر القبائل في شرق ليبيا وربما الأكثر نفوذا في بنغازي وما جاورها ستمنعه من بطش الطاغية، فدعا علانية للتمرد عليه، وحدد موعدا لتنسيق لذلك، فاقتحموا بيته فجر ذلك اليوم وبرجال من قبيلته نفسها، ليختطفوه ويلقوا به في غياهب السجن لعدة أشهر، ليخرج علينا بعدها وقد أعيد تأهيله، بعد إعلان توبته، فتحول إلى حارس أمين لحفتر وعائلته ومشروعه السلطوي.

يرى البعض أن مصير الدرسي سيكون أقرب إلى مصير فرج اقيعم منه إلى مصير سرقيوة، فتمرد الدرسي مشابه لتمرد اقيعم؛ لحظة انفعالية غاضبة بدر منه فيها ما لا يغتفر، ولكن المستبد حنون وسيروضه ويعيد تأهيله، ليخرج ويستعيد مكانه بين جوقة المتملقين المسبحين بحمد السلطة، فالرجل لم يرتكب جريمة التمرد على شاشات الفضائيات مثل سرقيوة فيستحق مصيرها، كما أنه لم يكن من أتباع فكرة الحياد السلبي كفتحي البعجة وزملائه، فهم وإن لم يعادوا النظام صراحة؛ إلا أنهم لم يبايعوه أيضا، فالأمر في حالتهم ملتبس، إما أن يموت أحدهم أثناء محاولته الفرار من السجن، أو يتكرم عليهم الطاغية بالعفو في إحدى تجلياته الروحانية، أو أن يلبثوا في السجن بضع سنين.

ومهما كان الأمر مع الدرسي أو غيره، أردنا في مقالنا فقط أن نذكركم ونقول لكم (مش قلنالكم؟)، سبح بحمد الطاغية كما أردت، وامدح شخصيته وقوته وهيبته وأناقته في بدلته العسكرية المرصعة بالنياشين، تحدث عن فصاحته وبلاغته وسمته ووقاره، اكتب الأغاني وانظم القصائد في مشاريعه للتنمية والتطوير والبناء، قل عنه وعن أبنائه ما شئت، ولكن لا تحدثني عن الأمن وأنت تسير في حقل ألغام لا تدري قد ينفجر أحدها في وجهك في أي لحظة.

الأمن ما يكون موجها لك وتكون مقصودا به، لا ما تناله عرضا لأن النظام يريد أن يعمل في هدوء، الأمن هو ما يحميك من تغول السلطة كما يحميك من تغول الناس، لا أن تعيش خانعا في ظل السلطة إلى أن تزعجها ولو عرضا فتفح عليك أبواب الجحيم، الأمن هو عكس الخوف، وما دمت خائفا تترقب فلا تحدثني عن الأمن.