تحقيقات

عاملات للبيع في ليبيا: سوق نخاسة حديثة تحت غطاء شركات الوهم!

كُتب كثيرًا عن وضع المهاجرين غير النظاميين في ليبيا، ووُثّقت العديد من الانتهاكات التي تعرضوا لها خلال السنوات الماضية نتيجة محاولتهم الوصول إلى أوروبا عبر الأراضي الليبية. ونتيجة حالة السيولة السياسية والمؤسساتية والأمنية في ليبيا خلال العشرية الماضية، خلق هذا الوضع أرضية خصبة لنشوء عصابات تهريب البشر، وتطوّر الأمر بشكل مستمر حتى وصل إلى جلب المهاجرين من مدنهم في أفريقيا إلى ليبيا وهم مسلوبو الإرادة والقرار. نعتقد أن من خلال هذا التحقيق سنبيّن كيف يتم جلب عاملات المنازل إلى ليبيا للعمل دون أن يكون لهن أي حق في استلام أموالهن، أو تحديد مكان العمل أو ظروفه، فهن فقط يعملن ليأكلن؛ هكذا ذكرت مهاجرة أفريقية لإحدى مصادرنا التي حاولت التحدث معها حول كيف وصلت إلى ليبيا، وما هي ظروف عملها الآن.

من الوعد الأوروبي إلى الاستعباد في ليبيا

تبدأ قصص هؤلاء المهاجرات من مدنهن في أفريقيا، ونخص هنا بلدان مثل نيجيريا وغانا ومعظم دول وسط أفريقيا، حيث تستغل عصابات الإتجار بالبشر الوضع الاقتصادي السيئ لتوظيف هذه الحالة لصالحها، فتعطي للمهاجرات وعودًا بالوصول إلى أوروبا عبر ليبيا. وغالبًا تأتي هذه الوعود من شخصية نسائية تُسمى “البوقا”، وهي المسؤولة عن جلب العاملات من مدنهن ودفع قيمة الرحلة لعصابة التهريب بالنيابة عنهن، لتتحول المهاجرة إلى ملك كامل للبوقا حتى تسدد قيمة نقلها وأرباحها أيضًا. بعد وصول المهاجرة إلى ليبيا، تقوم البوقا بترتيب مكان لسكنها مع أخريات في مساكن تفتقر إلى متطلبات السكن الصحي، حيث يعشن في غرف صغيرة مزدحمة جدًا، وفي هذه المرحلة تنتقل المهاجرة لما أسميناه “سوق النخاسة الجديد”.

آليات تشغيل العاملات داخل شركات وهمية

في هذه المرحلة، تقوم البوقا بخطوتين: إما التواصل بنفسها مع ليبيين يحتاجون إلى عاملات منازل أو الاتفاق مع ما يُسمى بشركات العمالة، وهي أجسام غير قانونية عبارة عن اسم وشعار فقط دون ترخيص حقيقي أو تنظيم من وزارة العمل، رغم أن قانون العمل رقم 12 لسنة 2010 نظم التعاقد مع العاملات بشرط دخولهن ليبيا بشكل قانوني، بينما هنا دخلت العاملات ليبيا بشكل غير قانوني وفي حالة تهريب، ما يجعلهن من الناحية القانونية غير موجودات ويضعهن في وضعية تعاقدية مزرية لا تحفظ لهن أي حقوق.

تقدّم البوقا العاملات لهذه الشركات الوهمية التي تقوم بتوزيعهن مقابل حصولها على قيمة شهرية تتراوح بين 500 إلى 1000 دينار ليبي (100 إلى 200 دولار) كعمولة لمدة تتراوح بين ستة أشهر إلى سنة، وذلك بخلاف القيمة المالية المستقطعة من راتب العاملة لسداد تكلفة المهرب الذي جلبها من بلدها إلى ليبيا والتي تصل إلى 25,000 دينار ليبي (5,000 دولار)، وتحتاج العاملة عادةً حوالي ثلاث سنوات لتسديدها إذا عملت بشكل مباشر ويوميًا، بينما تأخذ الشركة عمولتها من المواطن الليبي. حيث يتم تقسيم راتب العاملة على النحو التالي: متوسط راتب 1000 دينار (200 دولار)، يُعطى للعاملة أحيانًا 100 دينار فقط (20 دولار) والباقي يذهب للبوقا وعمولة الشركة، إضافة إلى ضريبة تدفعها الشركة للبوقا لمدة تتراوح بين ثلاثة إلى ستة أشهر وأحيانًا سنة بحسب جنسية العاملة وطلبها في سوق العمل.

ولتأكيد هذه السردية التي تحصلنا عليها من بعض مصادرنا، تقمص أحد زملائنا دور (شخص يريد أن يفتتح شركة عمالة) وحاور إحدى (البوقات) التي تحصلنا على رقمها من مصدرنا، وأجرى معها مكالمة، وقد أكدت فيها ماجاء في الشهادات التي تحصلنا عليه، والأرقام المالية التي تُجبى من المهاجرات العاملات في البيوت، إضافة لإستعدادها توفير عدد من العاملات حسب كلامها يصل لعشرة نساء

شهادات من الداخل: تفتيش وإهانة وسلب للأجور

استطعنا في هذا التحقيق الوصول إلى إحدى العاملات في هذه الشركات والحصول منها على تفاصيل عن آلية إدارة العاملات وشرعية وجود الشركات ومصدر العاملات. تقول رهف (اسم مستعار): “نحن كشركة نظافة نتعامل مع عاملات قادمات من نيجيريا، وجميعهن دخلن ليبيا بشكل غير قانوني ومن دون عقود رسمية أو إقامات قانونية؛ يدخلن البلاد بدون جوازات صحيحة أو بأوراق مزورة. نتمنى من الدولة تسهيل الأمور بإصدار جوازات أو إقامات قانونية أو حتى أوراق رسمية تضمن حقوق العاملة وتُسهّل عملنا كشركات حتى لا تحدث مشاكل”. وتضيف رهف عن آلية استلام العاملات لأموالهن: “مرتب العاملة عادة يصل إلى الشركة أولًا، ثم تحوّله أخت العاملة أو أحد أقاربها في ليبيا مباشرة إلى عائلتها في نيجيريا، بينما العاملة نفسها لا تستلم المبلغ نقدًا، ومدة إقامة العاملة لدينا تختلف: فهناك من تقيم 3 أشهر، وهناك من تبقى 6 أو 8 أشهر، وبعضهن يجددن المدة ويبقين فترات أطول قبل أن يعدن ثم يرجعن للعمل مرة أخرى”. كما أكدت رهف كيف تخضع العاملات لتفتيش شخصي مهين في كل مرة يخرجن فيها من البيت بقولها: “كشركة، عند دخول العاملة إلى مكان العمل، نخضعها للتفتيش للتأكد من عدم حيازتها لأي أشياء ممنوعة، كما يتم تفتيشها عند انتهاء فترة عملها. ومع ذلك، لا يمكن لأي جهة ضمان تصرفات العاملة بشكل كامل؛ إذ يمكننا فقط محاولة ضمان عدم هروبها، لكن لا يمكن ضمان عدم قيامها بسرقة مثلًا”.

هذا ما يؤكد الوضع المأساوي الذي تعيشه العاملات؛ فالقيمة المالية التي يحصلن عليها تذهب مباشرة للبوقا، ويخضعن لتفتيش شخصي إلزامي، ويعشن فقط على ما يُقدّم لهن من طعام في البيوت.

المسار الثاني: سيطرة مباشرة من البوقا

في المسار الثاني لإدارة العاملات، تقوم البوقا نفسها بإدارتهن مباشرة، حيث يتواصل الليبيون معها للحصول على العاملات، وهنا يدفع طالب الخدمة للبوقا قيمة شهرية تتراوح بين 500 دينار (100 دولار) لمدة ثلاثة إلى ستة أشهر، إضافة إلى راتب العاملة أو أجرها اليومي بحسب الاتفاق الذي يذهب أيضًا للبوقا لتسديد قيمة تهريب المهاجرة، ويتبقى للعاملات قيمة زهيدة لا تتجاوز 100 دينار (20 دولار) بالكاد تكفي للأكل في الشهر، ما يجعلهن يعملن فقط مقابل الأكل داخل البيوت.

شهادات ليبيات: قصص عن رقابة طويلة الأمد

ونظرًا لحساسية الموضوع وخوف المهاجرات من الحديث بسبب الانتهاكات التي تعرضن لها، لم يتمكن فريق التحقيق من الوصول إلى تصريحات واضحة من العاملات، لذلك لجأنا إلى ليبيات تعاملن معهن لفترات طويلة واطلعن على قصصهن. تقول رنا (اسم مستعار): “إذا كان التعامل مباشرة مع البوقا، فإنها عادة تمتلك مجموعة تصل إلى 20 عاملة جميعهن جرى تهريبهن عبر الصحراء بطرق غير قانونية. البوقا هي من دفعت تكاليف وصولهن إلى ليبيا وتبدأ باسترجاعها من رواتبهن، حيث تأخذ عمولة عن كل عاملة كل ثلاثة أشهر (مثلًا 500 دينار – 100 دولار)، بينما العاملة لا تحصل إلا على مبلغ زهيد جدًا من راتبها، وتجمع البوقا مبالغ رواتب العاملات وترسلها مجمعة كل عدة أشهر لعائلاتهن في نيجيريا، والعاملة لا تملك حرية التصرف بأموالها حتى تسدد كامل الدين”. تستكمل رنا حديثها عن وضع إقامة العاملات بقولها: “غالبًا تسكن العاملات مع البوقا أو في مكان قريب منها لتكون تحت رقابتها الدائمة، حيث تتحكم البوقا بتحركاتهن بالكامل، ولا يُسمح لهن بمغادرة المنزل أو العمل بحرية، وبعض العاملات يبقين تحت سيطرتها 10 أو 15 سنة دون أن يتحررن أو يستلمن رواتبهن بأنفسهن”.

 

الوضع القانوني: حقوق ضائعة وسط الهشاشة القانونية

يقول المحامي (عبد السلام أبوغالية)  عن هذه الحالة ( وجود العاملة المنزلية في وضعية هجرة غير نظامية يجعل تشغيلها جريمة وفقًا للقانون رقم 19 لسنة 2010 بشأن مكافحة الهجرة غير الشرعية الذي نص على عقوبة غرامة مالية تتراوح بين 1000 و3000 دينار ليبي (200-600 دولار) على كل جهة عمل أو شركة تقوم بتشغيل مهاجرين غير شرعيين. وبما أن وجود العاملة في ليبيا غير قانوني، فإنها تُعتبر غير قادرة قانونيًا على إبرام عقود أو التزامات أو القيام بتصرفات قانونية صحيحة، مما قد يُسقط حقها في المطالبة بحقوقها المالية أو القانونية وفقًا للتفسير السائد.

في حالة العقود الرسمية، يقوم مفتش العمل بمتابعة الشركات وجهات العمل للتأكد من التزامها بأحكام العقود، وذلك عبر مراجعة أماكن العمل والتحقق من مدى التوافق بين الواقع الفعلي وظروف عمل العاملة وما هو منصوص عليه في العقد من واجبات وحقوق، وفي حال اكتشاف خروقات أو مخالفات للعقود يتخذ المفتش الإجراءات القانونية اللازمة ضد جهة العمل المخالفة. أما إذا دخلت العاملة إلى ليبيا بشكل غير قانوني منذ البداية، فإن تشغيلها يعد جريمة ولا يحق لها قانونيًا العمل أو البقاء في ليبيا، بينما إذا دخلت بشكل قانوني ثم انتهت مدة إقامتها،

 يمنح القانون مهلة شهر واحد بعد انتهاء العقد لتسوية وضعها أو المغادرة، وإذا تجاوزت هذه المهلة تصبح إقامتها غير قانونية ولا يحق لها البقاء أو العمل، ومع ذلك يمكنها توكيل محامٍ للترافع والدفاع عن حقوقها أمام الجهات القضائية المختصة إذا كانت لها حقوق مالية أو تعرضت لانتهاكات)

وكنا قد حاولنا التواصل مع وزارة العمل الليبية في حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس للإستفسار حول هذه الشركات ومدى إستيفئها لكل المتطلبات القانونية والإجرائية، إلا أنهم رفضوا الإدلاء بأي تصريح حول الموضوع، وذكرو ان مثل هذا الأمر يحتاج لموافقة من الوزير شخصياً، لكننا لم نتمكن من الوصول لسعادة الوزير، رغم ان الأمر إجرائيا لا يحتاج لتصريح على هذا المستوى، إلآ أن هذا حال الجهات الرسمية داخل ليبيا !

 إن ما كشفه هذا التحقيق يعكس واقعًا صادمًا لآلاف المهاجرات اللواتي يجدن أنفسهن في ليبيا عالقات في حلقة مغلقة من الاستغلال والعبودية الحديثة، تحت أنظار مؤسسات غائبة وقوانين غير مطبّقة. وإن استمرار هذا السوق الموازي للعاملات المنزليات ليس سوى نتيجة مباشرة للفوضى المؤسسية والتشريعية، واستغلال الأوضاع الأمنية لصالح شبكات الإتجار بالبشر. هذه الحقائق تُحتم على الجهات الرسمية والمنظمات الحقوقية الوطنية والدولية التحرّك بشكل عاجل لمعالجة جذور المشكلة:

بدءًا من تفكيك هذه الشبكات وتجفيف منابعها، وصولًا إلى حماية المهاجرات وتفعيل القوانين التي تضمن حقوقهن الإنسانية والقانونية.

في سياق تاريخي يذكّر بمآسي العبيد في مزارع القطن بالولايات المتحدة، حين حُرِم البشر من حقهم في الأجر والحرية تحت غطاء أنظمة قانونية واقتصادية سعت لتبرير الاستعباد، نجد اليوم في ليبيا آليات مشابهة وإن اختلفت الأدوات والأزمنة؛ إذ يُستغل غياب الدولة والقانون لتُعاد ممارسة شكل حديث من العبودية بحق نساء مهاجرات، يعملن في ظروف قسرية دون أمل حقيقي في التحرر، ويُحرمن من أبسط حقوقهن في التحكم بأجورهن ومصائرهن.

إلى جانب ذلك، يسلّط هذا التحقيق الضوء على التحديات الأمنية الحقيقية التي قد يواجهها الصحفيون العاملون على مثل هذه الملفات الحساسة في ليبيا، بما في ذلك فريق منصة «علاش»، حيث قد تعرّضهم المعلومات التي كشفها التحقيق لتهديدات مباشرة من العصابات المتورطة أو الجهات المستفيدة من استمرار هذه الانتهاكات، في ظل غياب بيئة آمنة للصحافة المستقلة وضعف منظومة الحماية القانونية للصحفيين في البلاد.

إن السكوت عن هذه الانتهاكات لا يساهم فقط في مفاقمة معاناة العاملات، بل يرسخ أيضًا ثقافة الإفلات من العقاب، ويقوّض أسس العدالة والكرامة الإنسانية في بلد يعاني أصلًا من أزمات متشابكة. وفي المقابل، يبقى الإصرار على كشف الحقائق مسؤولية جماعية، ويتطلب دعمًا حقيقيًا للمؤسسات الإعلامية المستقلة والصحفيين، لضمان استمرارية دورهم الحيوي في فضح الانتهاكات والدفاع عن حقوق الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع.

 

 

رباب نور باحثة ميدانية وجامعة مقابلات: رباب نور
معتصم سليمان غرفيك و تطوير تقني: معتصم سليمان
ربيع داقو مدقق معلومات: ربيع داقو