تحقيقات

بين حماية القيم وتقييد الحريات: هل تواجه ليبيا خطر إعادة إنتاج التجربة الأفغانية؟

في بلد يعاني انقسامًا سياسيًا ومجتمعيًا عميقًا مثل ليبيا، غالبًا ما تكون القرارات الحكومية محط جدل واسع، سواء على المستوى الداخلي أو الدولي. خلال الشهر الحالي، أثارت تصريحات وزير الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية، المتمركزة في طرابلس، موجة كبيرة من الغضب والتساؤلات حول مستقبل الحريات الشخصية في البلاد. فقد أعلن الوزير عزمه فرض إجراءات تُلزم النساء بارتداء الحجاب، وتمنع سفر المرأة دون محرم، وتفرض قيودًا صارمة على الملابس وقصات الشعر، إلى جانب إنشاء جهاز للآداب العامة يراقب السلوك الاجتماعي. هذه التصريحات أثارت ردود فعل متباينة، وصُنفت من قبل بعض المراقبين المحليين والدوليين كخطوة نحو تضييق الحريات العامة في بلد يسعى لتجاوز أزماته.  

قرارات الوزير: إعادة تشكيل المجتمع أم قمع للحريات؟  

في مؤتمر صحفي أُقيم مؤخرًا، صرّح وزير الداخلية بمجموعة من الإجراءات التي وصفها بأنها تهدف إلى  حماية القيم الأخلاقية للمجتمع الليبي . تضمنت القرارات إلزام النساء بارتداء الحجاب، ومنع أي امرأة من السفر إلى الخارج إلا بموافقة ولي أمرها أو بصحبة محرم. إضافة إلى ذلك، أعلن الوزير عزمه منع استيراد الملابس التي اعتبرها غير أخلاقية، في إشارة إلى ملابس الشباب العصرية، وحظر بعض قصات الشعر التي وصفها بأنها غريبة على الثقافة الليبية . 

كما أوضح الوزير خططًا لإنشاء جهاز أمني جديد تحت اسم “جهاز الآداب العامة”، مهمته الأساسية مراقبة السلوك العام. وأكد أن الجهاز سيتولى القبض على الشباب والفتيات الذين يظهرون معًا في الأماكن العامة دون وجود صلة قرابة أو إثبات زواج. هذا القرار أثار موجة استياء كبيرة بين المواطنين، خصوصًا أنه يتطلب من الأزواج المتزوجين حمل مستندات قانونية تثبت زواجهم أثناء وجودهم في الأماكن العامة، يقول الوزير إن هذه القرارات جاءت استجابة لمطالب اجتماعية متزايدة بضرورة الحفاظ على القيم الأخلاقية الليبية في ظل ما وصفه بـ الغزو الثقافي الأجنبي . ومع ذلك، يرى مراقبون أن هذه التصريحات تمثل محاولة لإعادة تشكيل المجتمع الليبي عبر فرض قيم محافظة تتعارض مع تطلعات شريحة واسعة من المواطنين.  

الغضب المحلي: المجتمع الليبي بين الصدمة والانقسام  

على الصعيد المحلي، أثارت تصريحات وزير الداخلية الليبي عماد الطرابلسي جدلًا واسعًا بين الليبيين، وانقسمت ردود الفعل بين معارضين يرون في هذه التصريحات تعديًا واضحًا على الحريات الشخصية وانتهاكًا للقانون، ومؤيدين يعتبرونها خطوة ضرورية للحفاظ على القيم الأخلاقية للمجتمع. هذا الانقسام يعكس تعقيد المشهد السياسي والاجتماعي في ليبيا، حيث تختلط القضايا الدينية والاجتماعية مع الانقسامات السياسية والصراعات الثقافية. 

أعرب العديد من الناشطين الحقوقيين عن رفضهم القاطع لهذه التصريحات، مؤكدين أنها تمثل تعديًا صريحًا على حقوق المواطنين وحرياتهم الشخصية. الحقوقي فتحي البشتي، في تصريحات لصحيفة المرصد الليبية، وصف هذه الإجراءات بأنها غير قانونية، مشيرًا إلى أن  القوانين الليبية الحالية لا تنص على أي التزام قانوني بفرض الحجاب أو منع النساء من السفر دون محرم. هذا النوع من التصريحات لا يستند إلى قاعدة قانونية واضحة، ولا يعكس نصوص الشريعة الإسلامية التي تحكم القانون الليبي، حيث لا توجد عقوبات منصوص عليها في الإسلام لمن لا ترتدي الحجاب. 

يتساءل المعارضون، مثل البشتي، عن الأساس الذي اعتمده وزير الداخلية عند طرح مثل هذه الإجراءات، خاصة في ظل غياب قوانين ليبية تدعم هذه القرارات. كما أضافت الناشطة سعاد بن عامر في تصريح لموقع عين ليبيا، أن هذه التصريحات تعكس اتجاهًا خطيرًا لتقييد الحريات الفردية، معتبرة أنها محاولة لاستغلال السلطة لفرض الوصاية الأخلاقية على المجتمع . 

 

 

إلى جانب ذلك، يطرح منتقدو هذه القرارات سؤالًا جوهريًا حول مدى توافق هذه الإجراءات مع النصوص الدستورية والقانونية الليبية، حيث شددوا على أن الشريعة الإسلامية، رغم كونها مرجعية قانونية في ليبيا، لا تنص على عقوبات مباشرة لمن لا ترتدي الحجاب.  

على الجانب الآخر، هناك شريحة من المواطنين أبدت تأييدها الكامل لتصريحات وزير الداخلية، معتبرين أنها خطوة إيجابية نحو تعزيز القيم الأخلاقية وحماية الهوية الثقافية للمجتمع الليبي. انتشر على منصات التواصل الاجتماعي وسم بعنوان #كلنا_عماد_الطرابلسي، الذي لاقى رواجًا كبيرًا بين المؤيدين. عبر هذا الوسم، دعا البعض إلى تحويل تصريحات الطرابلسي إلى قرارات نافذة، معربين عن استعدادهم لدعم هذه الخطوة من خلال مظاهرات حاشدة ومناشدات علنية للحكومة، وقد نظمت بالفعل تجمعات في بعض المدن الليبية لدعم هذه التصريحات، حيث رفع المتظاهرون شعارات تطالب بفرض القوانين الأخلاقية التي أعلن عنها الوزير، وتحويلها إلى قرارات رسمية تُطَبَّق في أقرب وقت. وقال أحد المشاركين في هذه المظاهرات، في تصريح لموقع الرائد، إن  المجتمع الليبي بحاجة إلى هذه الإجراءات للحد من الانفلات الأخلاقي الذي يشهده الشباب، ونأمل أن يتم تنفيذ ما أعلن عنه الوزير دون تأخير .  

لم يقتصر التأييد على عامة الناس، بل امتد ليشمل بعض الشخصيات المعروفة في الوسط الفني الليبي. كان من أبرز الداعمين الفنان أشرف الشريف، المعروف في الأوساط الليبية بـ أشرف رعايش، والذي صرح في لقاء إذاعي بأن تصريحات الطرابلسي تعكس مطالب شريحة كبيرة من المجتمع، مضيفًا: كثير من الناس يرغبون في تعزيز القيم الليبية الأصيلة، وهذه القرارات تعكس رغبتهم في حماية مجتمعنا من التغيرات السلبية التي تؤثر في هويتنا. 

كما دعا الفنان الصاعد والوجه الجديد (أصيل بحير)، في منشور له على منصات التواصل الاجتماعي، وزير الداخلية إلى الإسراع في تحويل هذه التصريحات إلى قرارات رسمية، مشيرًا إلى أن: مثل هذه الخطوات تأخرت كثيرًا، ونحن بحاجة إلى قوانين تحمي أخلاقنا، وتعيد ترتيب أولويات مجتمعنا  

بينما تستمر ردود الفعل المتباينة تجاه تصريحات الطرابلسي، يبدو أن هذا الانقسام يعكس الواقع المعقد للمجتمع الليبي، الذي يواجه تحديات متداخلة بين الحفاظ على القيم الثقافية والتقليدية من جهة، واحترام الحريات الفردية وضمان حقوق الإنسان من جهة أخرى. 

في ظل هذه الأجواء، يبقى التساؤل قائمًا حول ما إذا كانت الحكومة ستتخذ خطوات فعلية لتحويل تصريحات وزير الداخلية إلى قرارات رسمية، أم أنها ستواجه ضغوطًا متزايدة من قبل الحقوقيين والمجتمع الدولي للتراجع عن هذه التوجهات المثيرة للجدل؟  

ما هي مآلات تصريحات الطرابلسي على الشارع الليبي؟ (الغايات والدوافع).  

يرى العديد من المتابعين ان غياب الأرضية القانونية والشرعية لتصريحات وزير الداخلية عماد الطرابلسي، تضع جملة من التساؤلات حول الغاية منها من الأساس، حيث لا يخفى على وزير الداخلية ان هذه الإجراءات لا يستطيع أي عنصر من عناصر وزارة الداخلية تنفيذها، وإن قام بذلك سيجد نفسه متهماً في حال تقدم مواطن بشكوى ضده، بالتالي ما هي دوافع الوزير من هكذا تصريحات؟، وما هي مآلاتها؟ 

أثناء بحثنا في هذا التحقيق حاولنا ان نتلمس الأثر الذي أنتجته هذه التصريحات في الشارع الليبي، خاصة بعد وجود توقعات من العديد من الناشطين الحقوقيين في ليبيا، ان هذه التصريحات ستؤدي إلى استباحة الناس لبعضها في الشوارع، وستزيد نسبة التعدي على النساء، لفظيا وإلكتروني، وأيضا على مستوى المضايقات في الشوارع.  

في هذا السياق تقول ليلي (اسم مستعار) <منذ صدور هذا التصريحات، وعندما أقرر الخروج من المنزل لأي سبب، سواء كان لخدمتي الشخصية، للجامعة، أو لأي غرض آخر، تبدأ سلسلة من المواقف التي لا يمكن وصفها إلا بالمروعة. بمجرد أن أشغل السيارة وأتحرك، أجد نفسي مضطرة للتعامل مع تهديدات متكررة، أتعرض للسب والشتم بعبارات بذيئة لا يمكن تخيلها، إلى جانب المضايقات المستمرة. وصلت الأمور إلى حد أنهم يلاحقونني بسياراتهم، مما عرضني للخطر الجسيم. في إحدى المرات، كنت على وشك أن أتعرض لحادث كاد أن يودي بحياتي بسبب هذه التصرفات>  

تُتابع ليلى حديثها وتقول  

<أما في الجامعة، التي يُفترض أن تكون مكانًا للعلم والرقي، فإن الوضع ليس أفضل. بمجرد أن أمر داخل الحرم الجامعي، أتعرض للإهانة والقذف بكلام سيئ يستهدفني وحتى عائلتي. أصبح سماع العبارات المسيئة والشتم أمرًا يوميًا، وتحديدًا الجملة المتكررة (نادي عماد وين عماد)، التي أسمعها باستمرار، القرار الذي صدر عن وزير الداخلية، والذي يُفترض أنه يهدف إلى حمايتنا، لم يوفر لي أي نوع من الأمان. بل على العكس، شعرت بأنني أتعرض للمزيد من الخطر يومًا بعد يوم. أصبح خروجي من المنزل مصدر تهديد حقيقي لنفسي، وبدأت أعيش في خوف دائم.>  

تختم ليلى كلامها بالقول  

<لذلك، أتوجه إلى وزير الداخلية برجاء صادق أن يعيد النظر في هذا القرار، ويعمل على ضمان سلامة المواطنين. نحتاج إلى إجراءات تعكس مصلحة الشعب، وتوفر لنا الحماية التي نستحقها> 

 

الأمر لم يقف على مستوى سياق التعاملات المباشرة بين المواطنين في الشوارع، بينما امتد الأمر إلى مواقع التواصل الاجتماعي، في هذا الجانب تقول هناء (اسم مستعار) <كمواطنة بعد صدور قرار وزير الداخلية بفرض الحجاب تعرضت لمضايقات شخصية حيث كنت في إحدى المرات أناقش موضوعًا عامًا على تطبيق (إكس)، فقام أحدهم بأخذ صورتي دون إذني، واستخدمها للسخرية والتنمر. بدأت التعليقات تركز على شكلي بشكل غير لائق، وأصبحت المناقشة شخصية بشكل مهين. استُهدفت بتعليقات مليئة بالتهجم وقلة الاحترام، وكان الأمر مزعجًا جدًا ومؤذيًا نفسيًا>  

تستكمل حديثها هناء وتقول   

<ما تعرضت له يعكس مستوى غير مقبول من التنمر والمضايقات التي يمكن أن يواجهها الأفراد في ظل قرارات كهذه، ويؤكد ضرورة تعزيز ثقافة الاحترام والحوار بدلا من الإقصاء والاعتداء الشخصي>  

 

إن الخوف الحقيقي الذي يخشاه كل رافضي تصريحات وزير الداخلية، هو ان يكون هناك حالة استباحة واستسهال للتحرش بالنساء في الشوارع، حيث مثل هذه التصريحات التي صدرت عن وزير داخلية، تمنح نوعاً من الغطاء لكل الممارسات المُشينة ضد النساء، لا أحد يقول اليوم ان هذه السلوكيات لم تكن تحدث في السابق، لكنهم يتحدثون عن هذا الغطاء الذي ذكرناه في هذا الشأن تقول نُهى (اسم مستعار) وهي طالبة جامعية الآتي   

<كان المتحرش رجلًا كبيرًا في السن نسبيًا، ربما في أواخر العشرينيات أو الثلاثينيات. كان يرتدي زيًا مكتوبًا عليه “وزارة الداخلية”، مما يعني أنه يمثل جهة رسمية في الدولة، كنت متجهة إلى الجامعة صباحًا، ووجدته واقفًا بالقرب من البوابة، لكنه لا يتبع أمن الجامعة. كان معه مجموعة من الشباب الصغار الذين لا يرتدون الزي الرسمي. أثناء مروري قال لي: (غير كان تتحجبي، لأن الحجاب جاي). كانت عبارته مستفزة جدًا وغير مقبولة. التفت إليه فورًا وأجبته بغضب: (ضم فمك، ترى!) استمر في التعليق، فقلت له بشدة: (سأبلغ عنك، وسأجعل المسؤولين فوقك يعرفون تصرفاتك!) ثم مشيت مبتعدة، بينما الشباب الصغار الذين كانوا معه بدأوا يضحكون عليه بسبب ردي عليه>  

تستمر نُهى تعلق على ما حدث قائلة:  

<ردود أفعال غالبًا ما تكون عنيفة؛ لأنني أؤمن بأن ما يخصني هو شأن شخصي بحت، وليس لأحد الحق في التدخل فيه. أنا لم أتدخل في شؤون أحد، ولم أوجه كلمة لأحد، وبالتالي لا أقبل أن يتعرض لي أي شخص، أو يحاول مضايقتي. ومن يحاول التعدي على خصوصيتي يستحق الرد الحازم>  

 

لم يقتصر الأمر على الفتيات فقط ، بل وصل الأمر أيضا للشباب ، حيث ذكر لنا محمد (إسم مستعار)  قصته بعد تصريحات الطرابلسي :- 

أعمل مندوب لشركة عامة ، وكنت في مطار إمعيتيقة في انتظار موظفين أجانب يتبعون الشركة التي اعمل بها ،لأستكمل لهم إجراءاتهم وأوصلهم لمقر الشركة، أستوقفتني فتاة، وطلبت مني ان أعطيها إشارة للإنترنت حتى تقوم بإجراء مكالمة، قمت بذلك، وأثناء كتابة الرقم السري لها في هاتفها، تحرك باتجاهي ثلاثة عناصر من أمن المطار وقالو لي (ممنوع ان تتحدث مع الفتاة) وقامو بإخراجي من المطار رغم إبلاغي لهم انني مندوب، وفي انتظار الموظفين، وعرفت عن نفسي، لكن هذا كله لم يغفر لي، 

خرجت من المطار وأنا أسأل، هل هناك آي قانون يمنعني من أن أتحدث مع فتاة في ليبيا في الأماكن العامة وأمام الناس؟ 

 

ردود الفعل الدولية: انتقادات لاذعة وتحذيرات من التراجع الحقوقي 

 أثارت تصريحات وزير الداخلية الليبي، عماد الطرابلسي، بشأن فرض الحجاب وتفعيل شرطة الآداب، ردود فعل دولية وانتقادات من منظمات حقوقية.

 منظمة العفو الدولية اعتبرت هذه التصريحات انتهاكًا لحقوق المرأة، مشيرة إلى أن فرض الحجاب وتقييد الاختلاط يتعارضان مع التزامات ليبيا الدولية في مجال حقوق الإنسان.

من جانبها، استنكرت منظمة هيومن رايتس ووتش هذه التدابير، ووصفتها بأنها انتهاك صارخ لحقوق النساء والفتيات الليبيات، داعية السلطات الليبية والمجتمع الدولي إلى عدم التسامح مع أي تدابير من شأنها أن تنتهك الحقوق الأساسية للنساء. 

على الصعيد الدبلوماسي، أعربت السفارة البريطانية في ليبيا عن قلقها إزاء هذه التصريحات، ودعت حكومة الوحدة الوطنية إلى الالتزام بمعايير حقوق الإنسان الدولية.

كما عبّرت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (UNSMIL) عن متابعتها الدقيقة لهذه التطورات، محذرة من أن القرارات المقترحة قد تضع ليبيا في مواجهة انتقادات واسعة من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.

الاتحاد الأوروبي أيضًا عبّر عن مخاوفه من التداعيات المحتملة لهذه التصريحات، مؤكدًا أن أي إجراءات من شأنها تقييد حقوق النساء والحريات الشخصية تتعارض مع جهود بناء دولة حديثة وديمقراطية في ليبيا، منظمات دولية أخرى، مثل التحالف الدولي لحقوق الإنسان والشبكة الأوروبية المتوسطية لحقوق الإنسان، حذرت من أن هذه التصريحات تمثل مؤشرًا على نزعة لتقويض الحريات الفردية في ليبيا. 

مع تصاعد الانتقادات، حذر مراقبون من احتمال اتخاذ إجراءات دولية إذا تم تحويل هذه التصريحات إلى قرارات عملية، مشيرين إلى أن بعض الدول الأوروبية قد تضغط من خلال الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان لفرض عقوبات محددة أو قيود على الحكومة الليبية إذا ثبت تراجعها في مجال الحريات وحقوق الإنسان ، الانتقادات الدولية لتصريحات الطرابلسي تكشف عن مدى حساسية الوضع الليبي الراهن، حيث قد تؤدي مثل هذه القرارات إلى زيادة عزلة ليبيا على الساحة العالمية، في وقت هي بأمسّ الحاجة فيه إلى الدعم الخارجي لإعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار. 

 

 

 ليبيا : بين فرض القيم وحماية الحريات  

يرى عدد كبير من الذين قابلناهم أن مثل هذه التصريحات تفتح الباب أمام استمرار حالات انتهاك الحياة الخاصة للمواطنين في ليبيا. وبينما لا ينكر أحد أهمية الحجاب في المنظومة الدينية الإسلامية وكونه رمزًا ثقافيًا ودينيًا متجذرًا، فإن جوهر الاعتراض يتمحور حول آلية فرضه، التي يصفها البعض بأنها قسرية وغير مبررة، وتتعارض مع مبادئ الحرية الشخصية التي يكفلها الدين نفسه. 

أشار المعترضون إلى أن مثل هذه التصريحات لا تستند إلى سوابق واضحة، سواء في التاريخ الإسلامي، أو في السياق الليبي الحديث، حيث لم تشهد البلاد، عبر تاريخها الطويل، آليات قمعية لفرض الممارسات الدينية أو الاجتماعية. ويقول البعض إن هذا النوع من السياسات يعيد إلى الأذهان التجارب المؤلمة لدول مثل أفغانستان في تسعينيات القرن الماضي، عندما فرضت قيود اجتماعية ودينية صارمة على النساء، ما أدى إلى عزلة دولية ومعاناة داخلية واسعة النطاق. 

يجادل المعارضون بأن فرض الحجاب ليس فقط غير منصوص عليه كإجراء عقابي في الشريعة الإسلامية، بل إن الدين نفسه يدعو إلى الإقناع لا الإكراه في العبادات، مستشهدين بالآية الكريمة: (لا إكراه في الدين) هذا المبدأ يُبرز تناقضًا واضحًا بين روح الشريعة الإسلامية والنهج القسري الذي تطرحه التصريحات الأخيرة، أما من الناحية القانونية، فإن العديد من الناشطين الحقوقيين أكدوا أن هذه التصريحات تخالف القوانين الليبية التي تكفل حرية التنقل والاختيار للأفراد، وتمنح المرأة حقوقًا مساوية للرجل. كما لا توجد أي نصوص تشريعية ليبية تُجيز فرض الحجاب بالقوة أو منع النساء من السفر دون محرم. 

كما يتخوف الكثيرون من أن مثل هذه الإجراءات، إذا ما تحولت إلى قرارات رسمية، قد تؤدي إلى مزيد من الاستقطاب المجتمعي في بلد يعاني أصلًا من انقسامات سياسية واجتماعية عميقة، ويعتقد البعض أن التركيز على قضايا مثل الحجاب والسلوك الاجتماعي يمثل محاولة لصرف الانتباه عن القضايا الأكثر إلحاحًا، مثل الأزمات الاقتصادية المتفاقمة، وضعف الخدمات الأساسية، وتدهور الوضع الأمني.  

أحد النشطاء الذين تحدثوا إلينا قال:  

 المجتمع الليبي بحاجة إلى قرارات تعزز الاستقرار، وتوفر فرص العمل وتحسن المعيشة، وليس إلى قوانين تضيق على الناس حياتهم اليومية، وتفرض عليهم قيودًا جديدة. هذه السياسات تُعمّق الهوة بين الشعب والسلطة، وقد تؤدي إلى تصعيد الاحتجاجات. 

 

 

ليبيا، التي تتمتع بتاريخ طويل من التنوع الثقافي، كانت دائمًا مجتمعًا يوازن بين المحافظة والحداثة، لم تكن هناك سوابق لفرض القيم الدينية بالقوة، بل كان الالتزام بالمبادئ الإسلامية دائمًا نابعًا من الاقتناع الشخصي والاختيار، ولهذا يرى كثيرون أن هذه التصريحات تشكل تهديدًا لهذه التقاليد الليبية المتسامحة، وتفرض نموذجًا غريبًا عن الثقافة المحلية.  

يُشير الباحث الاجتماعي نزار ( اسم مستعار) كنا قد تحدثنا معه إلى أن:  

 هذه التصريحات قد تُحدث تغييرات جذرية في طبيعة المجتمع الليبي، لكنها تغييرات لا تأتي من الداخل، ولا تعكس تطلعات المواطنين. إذا أردنا حماية القيم الأخلاقية، فيجب أن يكون ذلك من خلال التوعية والتعليم، وليس باستخدام أدوات السلطة. 

المقارنات مع تجارب دول أخرى مثل أفغانستان أو إيران ليست غريبة في النقاش الليبي اليوم، حيث يتساءل الكثيرون: هل يمكن أن تتحول ليبيا إلى دولة تُدار عبر أدوات قمعية مشابهة؟ التجارب السابقة أثبتت أن فرض القيم بالقوة غالبًا ما يؤدي إلى نتائج عكسية، ليس فقط على مستوى الحريات الفردية، ولكن أيضًا على مستوى استقرار الدول وعلاقاتها الدولية 

في أفغانستان، أدى فرض القوانين الاجتماعية الصارمة إلى عزلة دولية خانقة، وخلق حالة من الاضطراب الداخلي والاحتقان المجتمعي الذي استمر لعقود. هذه التجربة تُعد بمثابة تحذير لليبيا، التي تسعى لاستعادة مكانتها الدولية وتحقيق الاستقرار بعد سنوات من الصراع. 

بينما يدافع البعض عن هذه التصريحات باعتبارها محاولة لحماية القيم الإسلامية والأخلاقية، يرى آخرون أنها تشكل تراجعًا عن مسار بناء الدولة الحديثة والديمقراطية. ليبيا، التي تكافح للتعافي من سنوات من الصراع والانقسام، تبدو في حاجة إلى سياسات تعزز الوحدة الوطنية، وتضمن حقوق الأفراد، عوضا عن إثارة مزيد من الجدل والانقسامات.  

في النهاية، يبقى السؤال الأساسي: ما هي الأولويات الحقيقية للشعب الليبي؟ هل هي الحريات الفردية والتنمية الاقتصادية، أم فرض قيود اجتماعية تُبرر بحماية القيم؟  

ربما تكمن الإجابة في الحوار الوطني الصادق، الذي يضع مصلحة المواطن الليبي فوق كل اعتبار. وعلى الحكومة الليبية أن تدرك أن القرارات التي تتعارض مع التقاليد المحلية، والقوانين الوطنية، والالتزامات الدولية قد تكون أكثر تكلفة على المدى البعيد، ليس فقط من الناحية السياسية، بل أيضًا من ناحية استقرار المجتمع ومستقبله.  

نور علي غرفيك و تطوير تقني: نور علي
لوجين بن حسن مراسلة: لوجين بن حسن