السياسي

تأثير الفراشة وانقلاب النيجر

تأثير الفراشة وانقلاب النيجر

تأثير الفراشة وانقلاب النيجر

يقال في النظريات الفلسفية والفيزيائية إن فراشة ترفرف بجناحيها على ضفاف الأمازون مثلا؛ قد تحدث تحركا هوائيا يؤدي في النهائية إلى إعصار في خليج المكسيك، هذا الكلام في الحقيقة ما هو إلا تعبير مجازي واستعارة لفظية ولا يقصد به الحقيقة، إنما هو يستخدم للتعبير عن مفهوم تأثير الحدث على الظروف المحيطة به، ويشير هذا المصطلح في الأساس إلى أن الفروق الصغيرة في الحالة الأولى لنظام متحرك ديناميكي قد ينتج عنها في المدى البعيد فروقات كبيرة في تصرفات وسلوكيات هذا النظام.

تطبيقات هذه النظرية لا تنحصر في الأحداث الصغيرة التي تتسبب في أحداث كبيرة قد تصل إلى درجة الكوارث، بل يتعداها إلى أبسط وأكبر تفاصيل الحياة، فحدث صغير في بيت أحد جيرانك قد يغير حياتك إلى الأبد، فما بالك بحدث كبير على الحدود الجنوبية لبلادك.

ما دعا لكتابة هذا المقال هو الانقلاب الذي شهدته دولة النيجر المجاورة مؤخرا، وما يجعل هذا الانقلاب أهم من غيره في قارة أفريقيا التي تعج بالانقلابات أنه حدث على نظام منتخب ديمقراطيا لا على نظام انقلابي أو وراثي، ويمكن لانقلاب النيجر أن يحفز سلسلة من الآثار المزعزعة للاستقرار تتعدى النيجر إلى الدول المجاورة في منطقة الساحل.

وفي ليبيا التي تشهد حالة من عدم الاستقرار الجيوسياسي فإن احتواء التأثيرات والتعقيدات المحتملة لانقلاب النيجر تبدو ضربا من المستحيل خاصة وهي تشهد صراعات لا آخر لها لاحتواء تعقيداتها الداخلية.

تعقيدات انقلاب النيجر وتأثيراتها على ليبيا تبدأ بملف الهجرة المشتعل أصلا، فبالنظر إلى الموقع الجغرافي لليبيا ونشاط عصابات التهريب فيها وما أقدمت عليه السلطات التونسية مؤخرا من تشديد على المهاجرين وطردهم على مناطق حدودية وصحراوية نائية وتركهم هناك لملاقاة مصير محتوم؛ فإن ليبيا هي المرشح المثالي لتكون نقطة عبور رئيسية للتدفق المتوقع للمهاجرين الفارين من الفوضى الناشئة عن الانقلاب.

وضع المهاجرين المتردي في تونس المجاورة وحالة الميوعة الأمنية في ليبيا مع محاولة السلطات التشديد على مهربي البشر، مع تدفقات محتملة للمهاجرين إلى الشواطئ الليبية قد يؤدي إلى أزمة إنسانية تشبه تلك التي لازال يعاني منها آلاف السوريين على حدود بلادهم مع دول الجوار، الأزمة مازالت بلا حل رغم مرور أكثر من عقد من الزمان.

قد تؤدي التداعيات الأمنية لانقلاب النيجر وعدم قدرة الانقلابيين على السيطرة المطلقة على الأمور إلى تفاقم التحديات الأمنية القائمة في ليبيا والمنطقة، حيث من الممكن أن تصبح النيجر غير المستقرة أرضًا خصبة للجماعات المتطرفة التي تسعى لاستغلال فراغ السلطة، خاصة مع وجود بقايا تنظيم الدولة الإسلامية في جنوب ليبيا، حركة بوكو حرام في غرب أفريقيا وجبهة تحرير أزواد المتحالفة مع تنظيم القاعدة في منطقة جنوب الصحراء خاصة في جنوب الجزائر وشمال مالي، وقد يمثل فراغ السلطة في النيجر قبلة حياة لهذه الجماعات التي –ومن واقع التجارب الأليمة معها- تزدهر في فترات فراغ السلطة.

كما قد يؤدي عدم الاستقرار السياسي والأمني في النيجر إلى توتر العلاقات التجارية وتعطيل الأنشطة الاقتصادية في المنطقة ، مما قد يؤثر سلبًا على الاقتصاد الليبي الذي بدأ يشهد مؤخرا نشاطا ملحوظا لقوافل الشاحنات التي تعبر إلى دول جنوب الصحراء، وقد يمثل ضربة قوية لخطط ليبيا لأن تكون بوابة دول جنوب الصحراء على دول الشمال، كما قد يهدد خطط استثمارات الشركات الأجنبية الراغبة في العودة إلى ليبيا بعد سنوات من الغياب وخاصة في مجالات النفط والغاز والبنية التحتية.

ويمكن كذلك أن يغير الانقلاب في النيجر ديناميكيات القوة الإقليمية ويكون له تداعيات على السياسة الداخلية في ليبيا، حيث بإمكان نتائج الانقلاب حال نجاحه أن تشجع بعض الجماعات الراغبة في الاستيلاء على السلطة بقوة السلاح ما سيؤدي حتما إلى زيادة الاستقطاب السياسي.

قد يزيد الانقلاب في النيجر من قوة جماعات فاجنر في المنطقة، حيث أنه ورغم الطلاق الظاهر بين قيادتي فاجنر والدولة الروسية إلا أن الأولى هي بلا شك اليد الطولى لروسيا في مناطق لا تعد تاريخيا وجيوسياسيا مناطق نفوذ لها، وتخدم أجندتها السياسية في أفريقيا التي تعد مناطق نفوذ لفرنسا، وقد بدأت فرنسا خلال السنوات الماضية -وفي ظل تغلغل جماعات فاجنر في المنطقة- في فقدان نفوذها في القارة السوداء خاصة في دول أفريقيا الوسطى ثم مالي وبوركينا فاسو (دول شهدت انقلابات مؤخرا) والآن في النيجر التي أعلنت فرنسا منذ أيام قليلة إجلاء آخر رعاياها منها؛ لتنظم النيجر بذلك –حال نجاح الانقلاب- إلى معسكر فاجنر الذي يعد شرق ليبيا من أهم معاقله وواجهته البحرية على البحر المتوسط أحد أهم المسطحات المائية والمواقع الجغرافية بالنسبة لأوروبا.

أخيرا وليس آخرا من التأثيرات المحتملة للانقلاب في النيجر على ليبيا هو حقيقة اختلاف انقلاب النيجر عن غيره من الانقلابات التي شهدتها وتشهدها أفريقيا بين الفينة والأخرى، حيث أنه –كنظيره في مصر- هو انقلاب على سلطة شرعية منتخبة بطريقة ديمقراطية دستورية، ومن شأن نجاحه أن يزيد من حالة الشك في المجتمع الليبي في قدرة الدستور على حماية البلاد خاصة مع عدم قدرته وقدرة مؤسساته على حماية نفسها، كما أنه سيقوي طموحات الانقلابيين السابقين والحالمين في خوض مغامرات جديدة قد تفضي إحداها إلى النجاح خاصة وأن المؤسسات الحاكمة في ليبيا هي مؤسسات أمر واقع وليست مؤسسات دستورية، والانقلاب عليها أخف وطأة على المجتمع الدولي من الانقلاب على مؤسسات تستمد شرعيتها من صناديق الاقتراع.

للتغلب على هذه التداعيات السياسية والأمنية المحتملة، يمكن لليبيا المشاركة بشكل استباقي في الجهود الدبلوماسية لإفشال الانقلاب وعودة السلطة الشرعية المنتخبة، وتعزيز الحوار السياسي لإدارة عدم الاستقرار المحتمل.

 

يجب كذلك أن تلعب ليبيا دورها بحذر فلا تتورط في مغامرات عسكرية قد يؤدي فشلها إلى زيادة عدم الاستقرار الأمني والسياسي في مناطق الجنوب، فلا يخفى أن المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) قد لوحت بالتدخل العسكري لإنهاء الانقلاب وأمهلت الانقلابيين أسبوعا للتخلي عن السلطة وإعادة الرئيس المختطف محمد بازوم، وأكد أن وزراء دفاعها قد وضعوا فعلا الخطة العسكرية للهجوم المحتمل، ولا يخفى أيضا أن إيكواس لا تمتلك القوة العسكرية ولا الإمكانات اللوجستية التي تمكنها من خوض هذه المغامرة في وقت قصير واحتواء نتائجها، فهي بحاجة إلى دول جوار النيجر ومن بينها ليبيا لتدعم عمليتها العسكرية المحتملة، وهنا يجب التذكير بأن ليبيا منقسمة إلى معسكرين أحدهما أعلن صراحة وقوفه مع السلطة الشرعية متمثلة في محمد بازوم، والآخر لم يعلن عن أي موقف غير أنه من المرجح أن يدعم الانقلابيين بسبب محاولاته الانقلابية السابقة وبسبب وجود بصمات فاجنر في فريق الانقلاب وهو الذي يدعم فاجنر وتدعمه، لهذه الأسباب وغيرها فإن أي مشاركة لليبيا ولو رمزية أو لوجستية في أي عملية عسكرية في النيجر لن تكون محمودة العواقب.