السياسي

في ليبيا: حتى الكرسي يغضب ؟

في ليبيا: حتى الكرسي يغضب ؟

في ليبيا: حتى الكرسي يغضب ؟ 

 

بعد مرور أكثر من عقد على اندلاع الثورة التي كان يراد لها أن تكون المخرج من اجترار نفس الحالة السياسية الكئيبة؛ لا تزال اللعبة السياسية في ليبيا تدور في نفس الحلقة المفرغة، بين أجسام متآكلة الشرعية تتصارع على البقاء، ووجوه جديدة تطل برؤوسها بين كل حين وآخر ليس حبا في الوطن، بل طمعا في كرسي يضمن لهم حصتهم من الكعكة قبل أن تذوب في لهيب الصراع المستمر. 

اليوم، وفي مشهد منفر ومقزز ومستفز، يعلن عدد من المرشحين لرئاسة حكومة عقيلة صالح وخالد المشري التي وئدت قبل أن تولد؛ عن نيتهم تنظيم مظاهرة أمام مقر البعثة الأممية في ليبيا، ويريدون من خلال مظاهرتهم الاحتجاج على المسار السياسي الذي تعتمده البعثة، ويدعون –زعموا- إلى خريطة طريق واضحة، ولكن حقيقة احتجاجهم ليست سوى غضبة المستبعدين من تقسيمة الغنائم الجديدة، فهؤلاء يرون أنه تم استبعادهم من التوافقات الأخيرة، فبخروج خالد المشري من المشهد وعودة محمد تكالة برئاسة معترف بها للمجلس الأعلى للدولة؛ أسدل الستار رسميا على أحلامهم في رئاسة حكومة انتقالية جديدة، فلم يبق لهم سوى الضجيج في الشارع. 

من المثير للجدل أن الاحتجاجات لا تندلع من أجل تحقيق المصالح الوطنية أو السعي نحو بناء دولة قانون ومؤسسات، بل يبدو أن الدافع الرئيسي هو القلق من فقدان المناصب والامتيازات الشخصية، وقد كان من الأجدر بهؤلاء، لو كانت النوايا صافية، أن يطالبوا بمسار سياسي حقيقي يؤدي إلى انتخابات تنهي الأجسام متآكلة الشرعية وتطوي صفحة المراحل الانتقالية إلى الأبد، لا أن يغضبوا لفقد الأمل في رئاسة مرحلة انتقالية أخرى.

إن هذا المسلك من هؤلاء الأشخاص؛ ليصور بوضوح وجلاء شديدين حالة الانتهازية والمصلحية التي أصبحت تسيطر على معظم الليبيين، فلا تجد لأحدهم هما إلا تكديس الأموال وتوظيف الفساد لصالحه حتى وإن أتى ذلك على حساب مستقبل البلاد. 

إن ما يحدث في الشارع الليبي يعكس أزمة ثقة عميقة بين السياسيين والمواطنين، ففي العديد من المدن الليبية، لا تزال عمليات التنافس على إعادة الإعمار أو توفير الأمن – أو وهم الأمن- تقدم على هموم المواطن الحقيقية، فالمواطن يطمح إلى تحسين ظروف معيشته اليومية، ويطمح إلى تحسن الخدمات العلاجية والتعليمية، وإلى عدل يقضي على الظلم والفساد والمحسوبية، بينما تتصدر الأجندة السياسية مصالح ضيقة استغلها البعض لتغذية رواسب الفساد والمحسوبية. 

تعد معاناة الليبيين اليومية حقيقة مؤلمة، تتجلى في البطالة الحقيقية والبطالة المقنعة، وفي الفقر الشديد الذي غرس بنابه في لحم عدد كبير من الليبيين الذين ما زالت قوافلهم تنظم تباعا إلى قوائم الفقراء، وانقطاع مستمر في الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والماء.

تقارير المنظمات الدولية والمحلية توثق شهريا استمرار سقوط ضحايا بين المدنيين، واعتقال النشطاء والصحفيين تعسفيا، وانتشال جثث مهاجرين على الشواطئ، هؤلاء ضحايا انعدام الأمل، حيث لم يعد المواطن يملك شيئا يخسره سوى الانتظار. 

أضف إلى ذلك، أن ليبيا اليوم تحت وطأة صراعات جديدة تحاول جر البلاد إلى مزيد من الفوضى، وتجددت الاشتباكات المسلحة في بعض المناطق، مع تفشي الظواهر الإجرامية والجماعات المسلحة التي تعمل عادة تحت ستار مؤسسات رسمية، وتنعم بحالة استثنائية من الإفلات من العقاب، وبدلا من احتواء هذه الجماعات لتكون جزءا من حل دائم للأزمة، أصبحت جزءا رئيسا من المشكلة، بحيث تحولت البلاد إلى ساحة للمساومات السياسية والعنف المسلح.

الأمر الأكثر إحباطا هو غياب الإرادة الوطنية الحقيقية للوصول إلى حل جذري للأزمة المستمرة، والمجتمع الدولي، رغم كل تقصيره، لا يستطيع أن يحل مكان الليبيين في بناء دولتهم، والبعثة الأممية تقدم المسار تلو الآخر منذ سنوات، وتستبدل مرحلة انتقالية بأخرى، وتقود حوارا تلو الآخر، ولكن القرار النهائي، وقبل كل شيء، قرار وقف هذه المهزلة الدموية، يوجد في أيدي اللاعبين الليبيين.

وينبغي أن يدرك هؤلاء اللاعبون، في ظل التغيرات العالمية والتطورات السياسية الإقليمية، أن الاستمرار في هذا الكر والفر لن يؤدي إلا إلى مزيد من الضياع والخراب، ويجب أن يدركوا أن وجود فرصة حقيقية للإصلاح يتطلب منهم تجاوز المصالح الشخصية والسعي نحو بناء إطار سياسي مستدام يلبي طموحات الشعب الليبي. 

الخلاصة المؤلمة هي أن الاحتجاج الذي يدعو له مرشحو (العازة) اليوم ليس من أجل ليبيا، بل هو احتجاج من أجل كرسي، إنها صرخة في واد من المصالح الشخصية المتشابكة، حيث الضحية الوحيدة هي المواطن الليبي الذي لم يعد يمتلك شيئا يخسره سوى الوقت الذي يقضيه في الانتظار، ولا بد من وعي جماعي يقود إلى نقطة تحول، تمنح الأمل لطموحات الأجيال المقبلة، وتقود البلاد نحو استقرار حقيقي وعملية وطنية شاملة تعيد للسيادة قيمتها، وتحقق الأمان والرفاه للبلاد.