ليبيا : دولة الشَّبَه !
في لقاءٍ تلفزيونيّ، قال الفنان المصري (صلاح السعدني) للمذيعة، إجابةً عن سؤالٍ مفاده: كيف تقيم وضعنا في المنطقة بشكل عام ؟ وأنا هنا أنقلها باللهجة المصرية حرفيا .
«إننا في العالم العربي عندنا كل حاجة بالضبط زي اللي في العالم، يعني لو جينا لكرة القدم، هنلاقي عندنا اتحاد لكرة القدم، ملاعب، جماهير، لافتات إعلانات، وحكام، وفِرق بتنزل بـ 22 لاعبًا يقفوا قدام بعض ويلعبوا بكرة زي اللي موجودة في العالم. حتى طريقة التشجيع هي هي، إنما الفَرق إن اللي عندنا مش كرة القدم الحقيقية، دي شبه كرة القدم.
نفس الحكاية في الفن: عندنا كاميرات تصوير زي اللي في العالم، لكن استخدامها مختلف، فهي مش أصلية، هي شبه. إحنا في حياتنا كلها – في الاقتصاد، في الصناعة، في الزراعة – عاملين زي العالم بالضبط، لكن إحنا “شبه” مش أصل».
والناظر الهادئ لما يحيط بنا على هذه الأرض التي نعيش فيها، سيتلمّس العديد من تفاصيل هذه النظرية في حياتنا.
في ليبيا، لدينا ما يُسمّى بـ “رئاسة الأركان”. هناك مبانٍ، وسيارات رباعية الدفع، وجنود يرتدون بزّاتٍ عسكريةً عليها نياشين، ورتب متدرّجة، وإدارات ودوائر ومستندات مختومة. على الورق، كل شيء كما في الجيوش المحترفة. لكن عند الاختبار الفعلي، يتضح أن الانضباط المؤسسي، والقيادة الموحدة، والقرار الاستراتيجي غائبون، لتحل محلهم الولاءات المناطقية أو الشخصية، وألوية تتبع أفرادًا وعائلات، وتستعمل القانون العسكري متى تشاء وكيف تشاء.
نملك أيضًا وزارةً للداخلية، ومراكز شرطة، وبطاقات تعريف، ودوريات، وحتى بياناتٍ صحفية أنيقة، لكن الأمن الذي يُفترض أن يحمي المواطن، يتحول أحيانًا إلى أداة ترهيب، أو أداة خدمة لمصالح معيّنة ، كما نملك إمكانية نشر الخوف، ليس من مخالفة القانون، بل من السيارات، والكلام، والشعارات ، ونملك رتبًا أمنية، قطعَ حديدٍ تتربع على أكتاف رجال، ثقيلة الوزن، خفيفة التأثير، وسهلة الحصول، تُشبه في ذلك رتب الآخرين من أفراد الشرطة في العالم. والنتيجة: مظهرٌ أمنيّ منتشر، لكن حالة الأمان مفقودة.
المحاكم أيضا موجودة، والقضاة يؤدّون القسم، والقوانين مطبوعة، والأختام حاضرة، لكن العدالة الحقيقية قد تتعطل أمام نفوذ المال أو السلاح، أو تتأخر حتى يضيع الحق. نُحب التأجيل، ونملك حالة حرصٍ على الوصول للحقيقة لدرجة التأخر في إخراجها ، نملك أيضًا ميزانَ عدالةٍ نحاسيًا جميلًا، يشبه أقرانه في العالم، ليس مائلًا لكنه مكسور من الوسط. كما نملك نيابةً عامة تنوب عن شعبٍ يُشبه شعوب العالم، وتمثّلهم كما يُجيد الفنان الليبي التمثيل! لدينا كل ما يُشبه القضاء، لكننا لا زلنا نبحث عن القضاء في نفس الوقت، لأن العدالة تسأل عنه!
نملك أيضًا مبانٍ عليها لافتات “مستشفى كذا”، وأطباء يرتدون المعاطف البيضاء يُشبهون أطباء العالم الآخر، وأجهزة تصوير وتحاليل، وأصوات مرضى تائهة تبحث عن تشخيصٍ لدائها ، نملك حالة تشخيصٍ للأمراض تُشبه ما يحدث في العالم، كما نملك أدويةً، ومخازن لها تحوي أقفالًا مفاتيحُها في معسكرات، ومقرات الحُجّاج! كما نملك أمراضًا منتشرة تُشبه أمراض العالم في الشكل، أمّا المضمون، فهي تنفرد بأجساد الليبيين، مثل انفراد الكيان الهلامي بأهلنا في غزة!
لدينا مصارف بواجهاتٍ زجاجية لامعة تُشبه مصارف العالم، وماكينات صرّاف آلي، وبيانات سنوية من مصرف مركزي يُشبه (مصرف ليبيا المركزي) لدينا أيضًا سعر صرف عملتنا المحلية أمام عملات العالم يُشبه أسعار الصرف الأخرى في الدول، وسياسة مالية تُقرّ في سوق المشير، وبين “براويط” العملة ، ونملك أوراقًا نقديةً تُشبه قريناتها في العالم، تُصرف من قبل البنك المركزي، أو من معسكر الرجمة، أيّهما أقرب إليك!
المؤسسات الليبية اليوم أقرب إلى ديكور دولة منه إلى الدولة ذاتها، لدينا كل التفاصيل التي تجعل المراقب السطحي يقول: «هذا بلد منظم» لكن التجربة الميدانية تكشف أننا ما زلنا أسرى “الشبه”. التحدي الحقيقي ليس في طلاء الجدران أو شراء المعدات، بل في بناء جوهر المؤسسات على أسس كفاءة، وانضباط، وعدالة ،
وحتى يحدث ذلك أو لا يحدث، حاول – عزيزي القارئ – أن تجد نفسك وتتخلص من شبهك، علّنا إن عرفتَ القيام بذلك ، تحكي لنا عن الطريقة، للوصول إلى باقي أفراد الشعب الحقيقيين !!