السياسي

الحجُ لمن إقترب من السلطة أكثر !

الحجُ لمن إقترب من السلطة أكثر !

الحجُ لمن إقترب من السلطة أكثر ! 

 

قديما وقبل عشرات بل ومئات السنين، كان الحج إلى بيت الله الحرام لا يكون إلا بالاستطاعة الجسدية والمادية، فقد كان حجاج الإمارات والدول يتجمعون في العواصم والمدن الكبيرة وينطلقون في قوافل من الإبل والخيل قد تضم آلاف الحجاج، وينضم إليها في الطريق آخرون بحثا عن الرفقة والأمان،وكانت الرحلة تستغرق شهورا طويلة، ولم تكن السلطات الحاكمة في بلاد الحرمين تضع قيودا أو شروطا أو تأشيرات، فالحج لمن استطاع إليه سبيلا.

 

وفي وقت لاحق زاد عدد الحجيج بصورة مطردة بعد دخول وسائل النقل الحديثة، حيث دخلت في منتصف القرن التاسع عشر البواخر على خط الاستخدام في رحلة الحج إلى مكة المكرمة، وزيادة عدد الحجاج المسافرين على الطريق البحري، وفي أوائل القرن العشرين، قام السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ببناء سكة حديد الحجاز بين دمشق والمدينة المنورة، مما سهل رحلة الحج حيث سافر الحجاج بسهولة نسبية ووصلوا إلى الحجاز في أيام قليلة، ورغم تضرر خط السكة الحديد خلال الحرب العالمية الأولى وتوقف استخدامها، إلا أن ذلك لم ينقص من عدد الحجيج، بل إنه زاد بشكل كبير بعد دخول السيارات والطائرات وأصبحت طرق الوصول إلى البلد الحرام أقرب وأسهل.

 

وفي ثمانينيات القرن الماضي ومع التزايد الرهيب لعدد الحجاج، ومع مخاوف من عدم قدرة المملكةالسعودية على استيعاب الأعداد الهائلة من الراغبين في تأدية مناسك الحج، تم اعتماد نظام الحصص لأول مرة بعد إقراره خلال اجتماع وزراء خارجية المؤتمر الإسلامي.

النظام الذي وافق عليه الحضور، وضع كوتة مخصصة لكل دولة إسلامية محددة بـألف حاج لكل مليون نسمة مسلمة من السكان.

وبقيت هذه النسبة دون تغيير إلى يومنا هذا، وهو ما يحدد حجاج ليبيا بما لا يزيد عن سبعة آلاف حاج كل عام.

 

ومع زيادة الراغبين والقادرين على أداء المناسك عن العدد المحدد بكثير، فقد اعتمدت معظم الدول ومنها ليبيا؛ نظام القرعة بين الراغبين في الحج، ووضعت شروطا مثل عدم تكرر الحج لأكثر من مرة واحدة خلال خمس سنوات، وتحديد عمر معين لدخول القرعة، وغيرها.

ورغم أن القرعة كانت تجري في المساجد في ليلة 27 رمضان في كل عام، إلا أنها لم تخل من اتهامات بالوساطة والمحسوبية والتلاعب، كما أن الشروط لم تراع للجميع فقد كانت هناك دائما استثناءات وامتيازات لبعض المتنفذين وأقاربهم، كما حدثت تجاوزات كثيرة على امتداد السنوات بإزالة أسماء أشخاص وإدراج غيرهم بدلا عنهم، بل ووصلت إلى إنزال حجاج من الطائرة ليركب متنفذ وصاحب واسطة بدلا عنهم، ويروي بعض الناس أن بعض ضحايا هذه المعاملة التمييزية قد مات بحسرته بعد أن رأى حلم حياته يتبخر في لحظات لأن شخصا آخر قد وعده الحاج فلان بالحج والحاج لا يخلف وعوده وهذه آخر الطائرات!

 

رغم كل التجاوزات والاختراقات التي حدثت في السابق؛ إلا أن ما حدث خلال السنوات الثلاث الأخيرة يعد غير مسبوق على كل المستويات، فقد قررت الدولة بشكل غريب وغير مسبوق إقامة قرعة الحج لثلاث سنوات متتالية في مرة واحدة، وبعد ذلك جاءت جائحة كورونا واقتصر الحج في ذلك العام على الحجاج من داخل السعودية دون استقبال حجاج من خارجها، فتراكمت قوائم الحجاج الفائزين في القرعة منذ العام السابق والذين لم يتمكنوا من أداء المناسك بسبب الجائحة، فحدثت ربكة تقول سلطات الحج في ليبيا إنها تمكنت أخيرا من السيطرة عليها بعد أربع سنوات من الجائحة! وأن حجاج السنوات الماضية المتأخرين بسبب هذه الربكة سيتم استكمالهم هذا العام وأن قرعة حج العام القادم ستكون كاملة غير منقوصة وبدون إضافات من متأخري السنوات الماضية.

ومع هذه الربكة والشكوى من الناس من عدم تمكنهم من الدخول في القرعة، أو من تأخرهم لسنوات رغم فوزهم في القرعة، يحج كل عام مئات الأشخاص وربما أكثر بدون قرعة أو غيرها، أقارب وزير الدولة ومعارف رئيس الوزراء وجيران رئيس جهاز كذا وأعضاء جهاز كذا وغيرهم وغيرهم، مئات الأشخاص يحجون سنويا لا لشيء إلا لأنهم أقارب أو جيران أو معارف لحاشية الوزير أو الرئيس أو الزعيم، بينما يحرم البسطاء حتى من دخول القرعة، وليزيد الطين بلة؛ تدخل رئيس الحكومة منذ ثلاث سنوات وسن سنة سيئة هي التكفل بمصاريف الحج لكل الحجاج على نفقة الدولة، وكأن أموال الدولة ملكه ينفق منها كيف يشاء.

 

وهذا الإجراء سيء على كل المستويات، أولا تأخر الإعلان عنه حال دون دخول آلاف البسطاء في القرعة لأنهم لا يملكون ما يبلغهم الحج، ولو علموا أن علي بابا سيعلن تكفله بالمصاريف لما تأخروا في دخول القرعة، فالحج هذا العام للقادر وغير القادر على حد سواء.

 

ثانيا، كثير من الحجاج خلال السنوات الماضية هم من حصص الوزارات والهيئات والمجالس والمؤسسات، وهؤلاء إلى جانب حجهم بالوساطة والمحسوبية؛ فهم مقتدرون ولا مبرر لتكفل الدولة بمصاريفهم.

 

ثالثا، سيحمل هذا القرار أي حكومة قادمة مسؤولية إلغائه، والناس بعد سنوات من الحصول على ميزة معينة سيتعاملون معها معاملة الحق الأصيل، ولو استمرت حكومة عودة الحياة في الحكم لسنوات قادمة، فإن تكفل الدولة بمصاريف الحج سيصبح هو الوضع الطبيعي، وستصبح العودة إلى ما شرعه الله عز وجل من أن الحج على المستطيع القادر؛ بمثابة الهرطقة التي تستحق أن تسقط الحكومة من أجلها.

 

لقد تفننت الحكومات السابقة واللاحقة في إفساد دنيا الناس والتضييق عليهم، ولما أحست بأنها تمكنت من ذلك دخلت على خط إفساد دينهم، وبدأت بالتلاعب في قوائم الحج وإضافة مئات الأشخاص كل عام بحجة عدم إجراء القرعة مع أنها هي السبب في عدم إجرائها.

وحتى مع افتراض تعذر إجراء القرعة لأسباب حقيقية وغير مصطنعة؛ من يعطي الحق للوزراء وقادة المليشيات في الحصول على عدد معين من التأشيرات في كل عام ليوزعوها بمعرفتهم؟ لماذا يحج أقارب الوزير ومعارفه وأصدقاؤه، ويحرم من الحج من تعلق قلبه به وعاش على حلم تأديته، بل قد يموت بحسرته لأنه لا يعرف مسؤولا وليس في قبيلته وزير؟ لقد أجاب العلماء قديما وحديثا بفتاوى مفصلة على مشروعية الحج بالواسطة والعلاقات وليس ذلك مما يخفى على أحد، وقد لا يلام من وصلت تأشيرة الحج المجاني إلى باب بيته بتزلف من مسؤول لا يخشى الله ولا يرعى أمانته، ولكن أما يستحي الوزراء اللصوص وقد استطالوا في أموال الدولة طولا وعرضا، فبلغوا مبلغ الأثرياء في أزمنة قياسية؟ ألا يكتفون بذلك فيتركوا للناس دينهم؟ لماذا لا يكتفي أحدهم بالمنصب الذي يفتح له خزائن الملايين بلا حساب، فلا يتجاوزه إلى تأشيرات حج لبيت الله يوزعها على من يتزلف لهم عله ينال منهم نفعا إضافيا، أو يسجل عندهم إحسانا ليوم حاجة؟ 

 

لقد نخر الفساد أركان الدولة من جميع جوانبها حتى تكاد تخر هدا على رؤوسنا، فلما لم يبق للسوس من أركان للدنيا ينخرها؛ اتجه لأركان الدين وأدخل فيها الرشوة والوساطة والمحسوبية وسرقة حقوق الناس، وكأنه يقول أفسدتُ عليهم دنياهم فلم يمنعوني، فاليوم أفسد عليهم آخرتهم.