السياسي

ليبيا: الأرض التي تُجرم الاختلاف!

ليبيا: الأرض التي تُجرم الاختلاف!

ليبيا: الأرض التي تُجرم الاختلاف!

 

من خلال متابعة التعليقات لما يكتب في موقعنا أو غيره من المواقع الإخبارية أو التحليلية أو حتى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي التي تعنى بالشأن العام، يظهر بجلاء أن بعضنا يعتقد أن الفضاء العام ممثلا في مواقع الانترنت وصفحات التواصل الاجتماعي؛ هو ملكية خاصة، سجلها في السجل العقاري، وأحضر شهودا على ذلك من حلفائه وأتباعه، الذين يرفع بعضهم شعارات حرية الرأي ظاهرا، ولكنها في الباطن حرية ذات حد وحيد واتجاه واحد، حرية تبدأ من أفواههم وتنتهي عند آذانهم.

فما أن تخرج رأيا يخالف هواهم حتى تتدفق تعليقاتهم كالسيل، تتهكم على مقالك، تشكك في نواياك، وتتهمك بالجهل أو الخيانة، وتشتمك بأقذع وأبشع النعوت والأوصاف، وكأنهم اكتشفوا لتوهم أن الكاتب مستقل عنهم، وأنه صاحب رأي مختلف، وأنه ليس موظفا عندهم لا يكتب إلا ليرضيهم. 

في ليبيا التي أنهكها الانقسام، صرنا نتعامل مع الرأي المختلف وكأنه رصاصة خرجت من سلاح عدو، من ينتقد معسكر الدبيبة يصير عميلا لحفتر، ومن ينتقد معسكر حفتر يصير أجيرا للدبيبات ومرتزقا لتركيا أو قطر، وبين هذا المعسكر وذاك مازلنا نرمى في خزائن التصنيف والتشويه.

والحقيقة المؤلمة لك يا عزيزي المحتكر للحقيقة؛ هي أن لا أحد يملك الحقيقة المطلقة، وما تراه أنت خيانة قد يراه غيرك وطنية، وما تراه فشلا قد يكون في عين غيرك نجاحا، ورواية الناس للحدث الواحد تختلف باختلاف زواياهم وخلفياتهم وتجاربهم الشخصية، فالموظف في نفس المؤسسة في بنغازي يرى الأمور بمنظور غير منظور زميله الموظف في طرابلس، والمزارع أو مربي الأغنام في الجبل الغربي له أولويات غير أولويات التاجر في مصراتة أو زليطن. 

حتى القوى الدولية تنظر إلى ليبيا من زوايا مصلحية مختلفة، فبينما تحاول الصين مثلا الحفاظ على موقف متوازن مع جميع الأطراف حماية لمصالحها الاقتصادية، نجد دولا مثل الإمارات ومصر وروسيا تضع معظم بيوضها في سلة حفتر، وتبقي الباب مواربا تجاه الدبيبة ومعسكره، وعكس ذلك هو موقف تركيا وقطر ومعهما إيطاليا وإن على استحياء، وكل يروي القصة من زاويته التي تخدم مصالحه. 

فلماذا تطلبون منا الحياد المستحيل؟ طالبونا بالأمانة والموضوعية، فإلى أولئك الذين يطالبون الصحفي والكاتب بالحياد، أقول إن الحياد المطلق وهم كبير وخيال غير موجود، فكل منا يحمل في داخله تاريخا من التجارب الشخصية والانتماءات والقناعات الفكرية والسلوكية والتربوية التي تشكل عدسته التي يرى بها العالم، والمطلوب حقيقة ليس الحياد، فهذا مستحيل، بل الموضوعية والأمانة. 

الموضوعية تعني أن تقدم الحقائق كاملة غير مجتزأة، وأن تسمع للطرفين، وأن تتحرى الدقة في نقل المعلومات، والأمانة تعني أن تعلن تحيزاتك المبدئية، ألا تتجاهل حجة الخصم لمجرد أنها لا تعجبك، وأن تعترف بالخطأ إذا أخطأت.

هذا هو الفرق الجوهري بين الكاتب الحقيقي الي يعبر عن وجهة نظره وإن خالف الناس فيها، وبين بوق السلطة الذي يسعى للدفاع عنها وتلميعها ولا يقول لأتباعها إلا ما يحبون سماعه، فالأول يسعى لإعلام الناس، والثاني يسعى لتجييشهم. 

وثمة أشخاص يرون الناس بعيون طباعهم (وكل إناء بما فيه ينضح)، فيعتقدون أن الكاتب يجب أن يكون مثلهم بوقاً للسلطة أو لتيار سياسي معين، ولكن الحقيقة أن الكاتب الحقيقي لا يعمل عند أحد من قرائه، وليست مهمته إرضاء الجمهور، بل المهمة الحقيقية هي استفزاز الناس لتحريضهم على التفكير، وإثارة الأسئلة، وربما إزعاج القارئ الراضي عن واقعه، فلعل هذا الواقع سراب يحسبه الظمآن ماء.  

عندما تمنع السلطات في شرق البلاد أو غربها إجراء الانتخابات البلدية في عشرات البلديات بحجج أمنية واهية، فإن مهمة الكاتب هي فضح هذا العبث، وليس تبريره، وعندما تتحول مؤسسات المجتمع المدني من فضاء للعمل التنموي والحقوقي إلى أدوات في أيدي الأطراف المتصارعة، فإن واجب الكاتب هو كشف هذا الاختراق، وليس التغاضي عنه، وعندما تعتقل السلطة أو تعذب أو تقتل شخصا عبر عن رأيه، فإن واجبنا جميعا أن نستنكر هذا الفعل، ونحرص على عدم تكراره، لأننا قد نكون يوما في محل الشخص الذي ترجم وشاة السلطة كلماته على غير هواها، فاعتقل أو عذب أو قتل. 

ويجب علينا جميعا أن نعرف ونعترف بأن الفضاء العام ملك للجميع، وأن صوتك ليس أعلى من صوت غيرك، ورأيك ليس أكثر قداسة من رأي مخالفك، وأن التنوع ثراء وأن الاختلاف سنة الحياة، وكما قال الله عز وجل في سورة هود: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم). 

 

ختاما أخي المواطن العزيز؛ سواء كنت صاحب رأي مستقل أو كنت من أتباع هذا المعسكر أو ذاك، أقول إن الكتاب والصحفيين والمحللين ليسوا موظفين عندك، وليسوا مطالبين بتمجيدك أو تقزيم خصومك، هم مجرد بشر يحاولون، من خلال تجربتهم ووعيهم، المساهمة في فتح نوافذ للتفكير، فإما أن تقرأ لهم بموضوعية، وتحلل آراءهم بوعي، وتنقدها بدراية، أو تمر مرور الكرام عارفا أن ليس كل ما ينشر سيوافق هواك، وتذكر دائما أن العالم لا يدور حولك وحول أفكارك، وأن من تمجده أنت وتراه عظيما هو أهون عند غيرك من الذباب.