السياسي

لازالت الخيمة فوق الدولة؟

لازالت الخيمة فوق الدولة؟

لازالت الخيمة فوق الدولة؟

 

لم تشهد ليبيا في تاريخها الحديث والمعاصر، بل وربما حتى القديم، معالم واضحة لدولة شاملة تتصرف كدولة حقيقية، لا كإقطاعية أو إيالة تابعة لكيان أكبر، وبسبب الغياب المستمر لصورة الدولة، وجدت القبيلة بصورتها البدائية موطأ قدم لها في ليبيا، حيث رسخت أركانها وأكدت وجودها حتى في الأزمنة التي شهدت بعض معالم الدولة. 

منذ الاستقلال عام 1951 والنظام الملكي، خاصة خلال حكم القذافي بعد 1969، وحتى السلطات الرمزية والمرحلية بعد فبراير 2011، لم ير حكام ليبيا في القبيلة وشيخها مجرد تاريخ، بل كانت مرآة لسلطتهم، فشيخ القبيلة وفارسها وكبيرها في المخيلة الليبية، يمثل النموذج الأمثل للحاكم الذي يجمع بين الهيبة الدينية والزعامة القبلية والصلاحيات المطلقة، ويعتبر المرجع الذي يلجأ إليه أبناء القبيلة في كل كبيرة وصغيرة، ساحة بيته مناخ لإبلهم ومذبح لإبله، وفيها يلقون قصائدهم ويملؤون بطونهم ويفضون نزاعاتهم ويعقدون مناكفاتهم، ويسيرون إلى الحرب ويرضخون للسلم. 

لذا أصبح الاحتفاء بتراث القبيلة والعرف القبلي لغة رمزية لتبرير طبيعة الحكم، فعندما يفتقر النظام إلى الشرعية الدستورية أو الانتخابية، يبحث عن شرعية بديلة فيجدها في التراث، فيجمع شيوخ القبائل المتبوعين ليبايعوه، فيصبح بذلك في نظر القطيع سيدا لسادتهم، أي أن الحاكم لم يعد مجرد مسؤول يعمل في إطار قانوني يحدده ويحاسب عليه، بل صار وريثا تاريخيا لشرعية تسمو على المحاسبة، مما يمنحه قداسة سياسية دون الحاجة لصناديق الاقتراع. 

إن النظام القائم على التحالفات القبلية والعسكرية يؤمن بأن ليبيا لا تدار إلا من خلال الولاء الشخصي والعلاقات العرفية، تماما كما كان في الإمارات والمشيخات التقليدية، فالأمير أو شيخ القبيلة كان مركز القبيلة، بينما كانت المجالس القبلية عماد الحكم، والشخصيات القريبة منه هم النخبة الموالية، وهذه البنية ظلت قائمة عبر العقود، بدءا من حاشية إدريس السنوسي، مرورا بالقذافي، ولا تنتهي بالسلطات المتغلبة حاليا شرقا وغربا. 

لذلك، فإن الاحتفاء بالتراث من خلال تكريم المشايخ والحكماء والأعيان، وإقامة المجالس والتجمعات لهم، ومنحهم بعض الصلاحيات الهامشية، ليس احتراما من الحاكم لأعارف الناس وعاداتهم، بل هو ترسيخ لسلطة مطلقة اكتسبها الحاكم من كونه شيخا لشيوخهم وقائدا لقادتهم.

ويعتبر الاعتماد على القبيلة وقادتها في تحقيق مكاسب سياسية أو شرعنة مكاسب قائمة وموجودة أمرا غير جديد في الساحة الليبية، فقد لجأ الساسة والحكام إلى هذا الأسلوب منذ الاستقلال مرورا بالجماهيرية، وصولا إلى زمن الفوضى الحالي. 

زواج المصلحة بين الدولة والقبيلة قديم قدم الدولة نفسها؛ ففي النظام الملكي، وبعد ظهور بوادر الضعف على الملك وولي عهده، وبروز بوادر المنافسة على الحكم بين المقربين من الملك، وإيعاز بعض هؤلاء للملك ليصدر مرسوما ملكيا يلغي الأحزاب السياسية، تحولت القبيلة إلى منارة يهتدي بها أبناء البلاد (غير المتعلمين) لتوجيههم في الانتخابات، فقام المتنفذون ورجال السلطة باستجلاب الآلاف من أبناء بعض القبائل المهاجرين من دول الجوار، عن طريق شيوخ قبائلهم طبعا، وبدا الأمر كعودة لهؤلاء إلى وطنهم، ولكن جوهره كان الحصول على أصواتهم في الانتخابات، مع وعود بتوفير السكن والعمل لهم و المستقبل المشرق لأبنائهم (بعض أحفاد هؤلاء العائدين ما زالوا يعانون حتى الساعة من عدم استكمال إجراءات تجنيسهم، والبعض الآخر ما زال يعاني من الوصمة الاجتماعية). 

وبعد سقوط النظام الملكي وصعود القذافي، كان من أولى خطواته تخصيص أشخاص من عشيرته للاهتمام بملف القبائل، فعمل على تقريب بعضها وتغذية الأحقاد بين أخرى، لتكوين حالة توازن هش في المجتمع، حيث تحول النظام ورأسه إلى ملجأ تحتمي به بعض القبائل من اعتداءات محتملة، وباتت بعض القبائل ترى في النظام ورأسه الدولة نفسها، وليتحول التعريف القانوني للدولة بأنها نظام وأرض وشعب؛ إلى هرطقة سياسية، فتحولت ليبيا إلى قبيلة شيخها معمر القذافي، الذي نصب خيمته كأي شيخ قبيلة تقليدي وبدأ في استقبال أفواج الشيوخ المبايعين والأعيان المهنئين والشعراء الطامعين، واختفت الدولة تحت عباءة القائد الملهم الذي يتصرف بتفويض إلهي وشعبي ويتبعه الملايين، حتى اقتلعته رياح التغيير التي اقتلعت سابقه ذات صباح. 

ومع التغيرات التي ظهرت بعد ثورة 2011، ظن كثيرون أننا سنشهد قيام دولة مدنية تطلق القبيلة طلاقا بائنا، لكن تلك الآمال سرعان ما خفتت، وعادت القبيلة لتظهر، متمسكة بعباءات مشايخها وجرودهم، تسعى للحصول على الوظائف والمناصب، مقابل ولاء رمزي للحكام المستجدين، وظهر ما يعرف بمجالس الأعيان (التي حلت محل روابط الخبراء التي أسسها النظام السابق) التي حصلت على صلاحيات هامشية، مقابل امتيازات تمكن المشايخ من العودة إلى مواقع النفوذ.

بعد هذا المسار التاريخي الطويل، يصبح الجواب جليا وواضحا؛ الدولة والقبيلة ضدان لا يجتمعان، فما دامت الولاءات القبلية هي الأساس، وما دام شيخ القبيلة - الذي يستمد شرعيته من ماله وولائمه وعلاقاته - هو مرجعية المواطن الأولى، فلن تقوم للدولة قائمة. 

إن التحرر من سطوة القبيلة ليس خيانة للتراث أو تقليلا من شأن الأصول، بل هو شرط أساسي للانتماء إلى الوطن، فليبيا التي نحلم بها لا يمكن أن تبنى على ولاءات متقاطعة تضع القبيلة فوق الدولة، والشيخ فوق القانون، والعرف فوق الدستور.

 

فإما أن نختار دولة القانون والمؤسسات، وإما أن نستمر في دوامة ولاءات ما قبل الدولة التي لن تنتج سوى المزيد من التفتت والضعف والتبعية، والخيار بين القبيلة والدولة هو في جوهره اختيار بين الماضي والمستقبل، بين الفوضى والاستقرار، ولن يكون هناك مستقبل لليبيا إلا بقيام دولة يكون القانون فيها هو الشيخ الوحيد، والدستور هو العرف الأعلى، والمواطن هو الزعيم الحقيقي.