السياسي

قيادة بقيادة ومشير بمشير والعكرة يجري!

 قيادة بقيادة ومشير بمشير والعكرة يجري!

 قيادة بقيادة ومشير بمشير والعكرة يجري!

 

هذه العبارة ليست تهكمية، وإن كانت لا تأتي إلا كذلك في أي سياق يمكن أن تتخيله، فرغم طرحها التهكمي؛ إلا أنها جاءت في سرد تشجيعي من قبل نشطاء موالين للحكومة في طرابلس لخطوة يشاع أن الحكومة مقبلة عليها خلال الأيام القادمة، فبينما تغرق ليبيا في أزماتها المزمنة، يطل علينا هؤلاء النشطاء بأخبار حصرية أن الحكومة والمجلس الرئاسي بصدد ترقية عدد من الضباط أحدهم لرتبة "مشير" واستحداث منصب "القائد العام" في القوات التابعة لغرب ليبيا، وتكليف المشير الجديد بهذا المنصب، وكأننا نعاني من نقص في الرتب لا من توسع في منحها لكل من هب ودب.

القرار بحد ذاته ليس غريبا؛ إنما الغريب هو ذلك الصدى الإعلامي المصاحب له، وكأن البلاد على وشك تحقيق نصر عسكري ساحق ضد عدو خارجي، وليس مجرد مناورة في صراع داخلي عقيم، ولو كانت الرتب العسكرية وحدها قادرة على حل الأزمات، لكانت ليبيا اليوم من أكثر دول العالم استقرارا. 

أول ما يلفت الانتباه في هذه المسرحية هو تناقض أبواق السلطة في الغرب، فنفس الأصوات التي هاجمت بشراسة قرار تعيين خليفة حفتر "قائدا عاما" في الشرق، ووصفته بأنه غير قانوني ومخالف للتراتبية العسكرية، وأن هذا المنصب وهذه الصفة غير موجودان في القانون العسكري الليبي؛ نجدها اليوم تهلل لخطوة مماثلة في الغرب، فما الذي تغير؟

هذا التناقض لا يعبر عن موقف مبدئي، بل هو انعكاس دقيق لثقافة "الكيل بمكيالين" التي أصبحت سمة بارزة في الخطاب السياسي الليبي، والحقيقة المرة هي أن كلا الطرفين يمارس نفس اللعبة، ويسعى لخلق وقائع عسكرية موازية لترسيخ الانقسام، لا لحله. 

والمنطق الذي تقدمه بعض الأوساط السياسية لتبرير هذا التوجه مفاده أن هذه الخطوة تهدف لـ"خلق التوازن" تمهيدا لتوحيد المؤسسة العسكرية، لكن السؤال الذي يفرض نفسه: أي توحيد هذا الذي يبنى على تأسيس كيانات متوازية ومتضادة؟ التوحيد الحقيقي للمؤسسة العسكرية يتطلب حوارا جادا وتنازلات متبادلة، وليس سباقا في ترقيع المؤسسات وتوزيع الرتب، وكيف يمكن الحديث عن توحيد الجيش بينما يوجد "مشيران" و "قائدان عامان"؟ من سيقبل بتبعية مشيره وقائده العام لمشير وقائد عام آخر؟ هذا ليس تمهيدا للتوحيد، بل هو ترسيخ للانقسام تحت شعارات زائفة، وقد عجزنا عن توحيد الجيش بمشير واحد، فكيف سنوحده بوجود اثنين.

المعضلة الحقيقية تكمن في أن هذا السباق قد لا يتوقف عند "المشير"، فالبعض في الشرق كان يطالب منذ فترة طويلة بترقية حفتر إلى رتبة "مهيب"، وإذا قبل حفتر وعقيلة صالح هذا الطرح ولبيا هذه المطالب، فماذا سيكون رد فعل الغرب؟ هل يرقي مشيره الجديد إلى مهيب أم أنه سيخترع رتبة "إله الحرب" ليكون له السبق؟ الأمر لم يعد يختلف كثيرا عن سباق التسلح، لكنه هذه المرة سباق رتب وموازنات ومؤسسات وهمية. 

الخطر الأكبر في هذه الترقيات واستحداث المناصب، هو تحويل المؤسسة العسكرية من مؤسسة وطنية موحدة إلى أداة في الصراع السياسي الدائر، فبدلا من أن يكون الجيش حارسا للوحدة الوطنية واستقرار البلاد، يتم تسخيره لخدمة أجندات سياسية ضيقة.

هذا التحول يذكرنا بما حذرت منه بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا في تقاريرها المتعددة، حيث شددت على أن التوازنات العسكرية الهشة تشكل تهديدا مستمرا للعملية السياسية، كما أن مجلس الأمن الدولي، في بيانه الصحفي الصادر في 3 سبتمبر 2025، نصح الأطراف الليبية بالابتعاد عن أي أفعال أحادية الجانب قد تهدد الوضع الأمني الهش.

والتاريخ أثبت أن الحلول العسكرية في ليبيا لن تؤدي إلا إلى طريق مسدود، فبعد سنوات من الصراع، لم يتمكن أي طرف من حسم المعركة لصالحه، وكل ما أنتجته المواجهات المسلحة هو مزيد من الموت والدمار والمعاناة للمدنيين، وتعميق للانقسامات، وتفتيت للنسيج الاجتماعي، وترسيخ لثقافة العنف. 

الحل الحقيقي لا يكمن في المزيد من التقسيم والتجزئة للمؤسسات، بل في العودة إلى طاولة الحوار، وللجلوس على هذه الطاولة لا نحتاج لتساوي الرتب بقدر ما نحتاج لتسوية النزاعات، ولا نحتاج لتعدد القيادات بقدر ما نحتاج القيادة الحكيمة، وما فشلنا في تحقيقه بمشير واحد، لن نحققه إذا أضفنا له ثان، وما فشلت في تحقيقه القيادة العامة في الشرق، لن نصل إليه إذا صنعنا ندا لها في الغرب، فنحتاج حقيقة أن نوقف العبث ونستمع لصوت العقل.

إن ما تشهده ليبيا اليوم ليس سوى استمرار للعبثية نفسها التي أوصلت البلاد إلى هذا الحال، الإفراط في الترقيات العسكرية واستحداث المناصب في الغرب والشرق ليست سوى حلقة جديدة في سلسلة الصراع على النفوذ والسلطة. 

والمشكلة في ليبيا سياسية في جوهرها، والحل لن يكون عسكريا أبدا، يحتاج الليبيون إلى قادة شجعان يقدمون مصلحة الوطن على مصلحتهم الشخصية، ويقبلون بالتنازل من أجل الوحدة الوطنية، لا أن يكرسوا الانقسام تحت أي ذريعة.

 

المواطن الليبي لا يريد مشيرا منقذا أو قائدا معجزة، كل ما يريده هو حياة كريمة في بلد مستقر، فهل من مستمع؟