السياسي

ميزانية حفتر تشعل مسرح العبث!

 ميزانية حفتر تشعل مسرح العبث!

 ميزانية حفتر تشعل مسرح العبث!

 

نعيش في ليبيا اليوم وضعا لا يختلف كثيرا عما يوصف في الأدب بالكوميديا السوداء؛ وهي تناول مواضيع مأساوية أو صادمة (كالموت، أو الحرب، أو الجريمة، أو الانتحار) عبر قالب ساخر أو هزلي، بهدف كشف عبثية الواقع أو تناقضاته المرة.

ذكرني بهذا الأمر مشهد هزلي كان بطله رئيس حكومة شرق ليبيا المدعو أسامة حماد الذي خرج علينا مستعرضا عضلاته، مهددا بطرد بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا باعتبارها غير مرغوب في وجودها، مستدلا على ذلك بما سماه الغضب الشعبي الذي عبرت عنه مجموعة من المتظاهرين الذين اقتحموا مقر البعثة في جنزور في غرب ليبيا.

ومع أننا لا ندري على وجه الحقيقة ما إذا كان اقتحام المتظاهرين لمقر البعثة مرتبطا بالخطاب المتشنج للسيد حماد، أو أنها مجرد مظاهرة عفوية تحمس بعض من قاموا بها ففعلوا ما فعلوا؛ إلا أن البعثة اعتبرت أن خطاب رئيس حكومة شرق ليبيا تحريض على العنف ضدها وأنه لا يخدم القضية الليبية، مشيدة في الوقت ذاته بما سمته انضباط القوات الحكومية في التعامل مع المظاهرات في طرابلس.

قد يرى بعض المتابعين أن اقتحام مقر البعثة بعد إحاطة رئيستها هانا تيتيه الأخيرة أمام مجلس الأمن دليل على تغلغل كبير لقادة قوات وسلطات شرق ليبيا في غربها، فلم تبد أي جهة في ليبيا انزعاجها من إحاطة تيتيه إلا أتباع خليفة حفتر ولاعقي أحذية أبنائه، فلماذا يقتحم المواطنون في غرب ليبيا مقرها؟ بل إن تيتيه لم تأت بشيء جديد في إحاطتها الأخيرة باستثناء انتقادها للميزانية الضخمة التي خصصها مجلس النواب لما يعرف بصندوق التنمية وإعمار ليبيا الذي يرأسه بلقاسم حفتر، وهذا قد ينشئ سؤالا عن من المستفيد في غرب ليبيا من اقتحام مقر البعثة بعد انتقادها لسلطات الشرق؟

ولكننا في هذا المقال غير معنيين بالإجابة عن هذا السؤال بقدر تركيزنا على ملامح الكوميديا السوداء في مشهدنا العبثي، فحماد – الذي سبق أن وصفه خصمه المباشر عبدالحميد الدبيبة بالكومبارس ورفض حتى ذكر اسمه- لم يثر ويتشنج ضد تيتيه وبعثتها إلا عندما سلطت الضوء على خطر ميزانية غامضة يراد تمريرها لصالح العائلة المالكة في برقة، محذرة من تهديدها لاستقرار العملة ومكافحة التضخم، ومن احتمال فشل المصرف المركزي معها في المحافظة على سعر الصرف وقوة الدينار الليبي وبالتالي على قوت ملايين الليبيين، فالمضحك المبكي أن تعبر البعثة عن خوفها علينا، بينما يشتمها من يراه بعضنا رئيسا للحكومة على هذا الخوف ويدعو لطردها ويحرض عليها!

تقوم البعثة منذ تأسيسها بتسيير حوارات بين الليبيين، وقيادة مساعي حميدة لحل الأزمة السياسية في البلاد، ولكنها فرضت في السابق توجهاتها دون توافق واسع عليها، فمن الاتفاق السياسي وحكومة الوفاق الوطني التي أنتجها بيرناردينو ليون، إلى ملتقى جينيف وحكومة الوحدة الوطنية التي أنتجتها ستيفاني ويليامز؛ ورغم ذلك كان الرفض في معسكر الشرق دائما متحفظا، وكان الموقف غالبا متماهيا مع الأحداث، ولم نسمع هذه النبرة المتشنجة ضد البعثة إلا عندما انتقدت قرارا لمجلس النواب قد لا يكون لانتقادها له أي تأثير على اعتماده من عدمه، ولماذا لم ينتقد بلقاسم حفتر انتقاد تيتيه، بل ولم يعلق عليه أصلا والصندوق صندوقه والميزانية ميزانيته، لماذا لم نسمع هذه النبرة المتشددة من أحد من عائلة حفتر، بل لا نرى ونسمع منهم وعنهم إلا الحكمة والعقل في التعامل مع الأطراف الخارجية، بينما ينبري غيرهم للدفاع عنهم كل ما ذكروا بحق أو بباطل.

 عندما أشارت البعثة الأممية إلى تحريض شخصيات سياسية على الاعتداءات ضد مقرها، لم تسم أحدا صراحة، ولا ندري أهي حكمة سياسية أم استقلال من شأن السيد حماد وترفع عن ذكر اسمه كما فعل في السابق خصمه؟ لكن هذا الامتناع عن التسمية حوله المذكور إلى بطاقة دعائية، فاندفع هذا الهمام ليصب جام غضبه على البعثة الأممية، متهما إياها بالفشل في تحقيق أي تقدم خلال أكثر من عشر سنوات من العمل، رغم سكوته طيلة هذه المدة التي كان فيها وزيرا –طرواديا- للمالية في حومة الوفاق، ثم رئيسا –كومبارسيا- لحكومة حفتر وعقيلة.

ومن المفارقات أيضا تبريره الهجوم على مقر البعثة بأنه تعبير طبيعي عن السخط الشعبي من أداء البعثة، متناسيا أن التعبير الشعبي عن فشله وفشل مشغليه يعني الربط بالسلاسل، والموت تحت التعذيب في أقبية الأمن الداخلي، والإلقاء بالساخط جثة هامدة في شارع الزيت، فلمزيد من الإغراق في الكوميديا السوداء؛ يحرض حماد وزمرته ومشغلوه على التظاهر ضد بعثة الأمم المتحدة للتعبير عن السخط الشعبي، وضد حكومة الدبيبة للتعبير عن الرفض الشعبي، بينما يعتبر نفس الفعل أو الدعوة إليه جريمة نكراء تستوجب القتل أو الربط بالجنازير وأحيانا السقوط من نافذة عالية أثناء محاولة الهروب من السجن!

وفي مشهد آخر لنفس المسرحية الهزلية يستغل المذكور الأجواء العامة في طرابلس لتأجيج هجوم على مقر البعثة، ثم يتهمها بالفشل في إدارة ملف يمتلك مشغلوه معظم أوراقه، متناسيا حقيقة أن الشارع الليبي يريد تغييرا شاملا لكل من هم في المشهد اليوم بمن فيهم هو وأولياء نعمته.

 يعلم الجميع أن المحرض على اقتحام البعثة ليس أكثر من دمية قد حشر أحدهم يده داخلها ليحرك شفتيها كأنها تتكلم، بينما يتكلم هو دون أن يظهر في المشهد، ويعلم الجميع أنه ليس أكثر من كومبارس –كما وصفه خصمه- في مشهد يلعب فيه دور البطولة القائد المغوار الذي يترفع عن الرد على توافه الأمور، فيحرك دميته لتنطق بما يجول في خاطره، ويظهر هو بمظهر الحكيم المترفع عن توافه الأمور، ويعلم الجميع أن لا المحرض ولا غيره قادر على أن ينطق بكلمة دون إذن مشغليه، ويعلم الجميع أن البعثة لم تعمل لمصلحة ليبيا والليبيين سابقا ولم يحرض عليها أحد، ولكن عندما عملت ضد مصالح العائلة المالكة جعلت نفسها عرضة لسهام أتباعهم، ويعلم الجميع أن الأمة التي يحكمها أراذلها وصعاليكها غالبا ما يؤول بها الحال إلى الضياع والهلاك، لأنها فقدت مقومات البقاء والنهوض.