ليبيا مختبر العبودية الحديثة وصناعة الطغيان!
قبل خمسة قرون من الزمان، طرح الفيلسوف الفرنسي إيتيان دي لا بواسييه في كتابه "العبودية المختارة" سؤالا محيرا؛ لماذا يوافق الملايين من البشر على الخضوع لطاغية واحد، رغم قدرتهم على تحرير أنفسهم بمجرد رفض الطاعة؟
منذ ذلك الحين؛ كتب الكثيرون حول هذه الفكرة، ولعل من أروع ما كتب، كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لعبد الرحمن الكواكبي، الذي حلل شخصية الطاغية والعقلية الجمعية للشعوب الخاضعة، ورأى أن الطاغية ضعيف في الواقع، ولكنه يستمد قوته من جهل الناس بهذه الحقيقة، وقابليتهم للرضا بأمن مزيف بدلا من المخاطرة برفض الطاعة.
قدم لنا التاريخ –ولا يزال- مئات وربما آلاف النماذج التي تصادق على هذا الكلام، من ذلك النموذج الليبي قبل 2011، واليوم وبعد أكثر من 15 عشر عاما على تخلص ليبيا من طاغيتهاوجلادها؛ ما زالت تقدم، وخاصة شرقها، مختبرا معاصرا لهذه الأفكار، حيث تتجلى السلطة عبر الولاءات المليشياوية –شبه العسكرية- والعشائرية، لا عبر عبقرية القائد أو قوته.
يؤكد لا بواسييه أن الطاغية لا يحتاج إلى ذكاء خارق أو قوة جسدية، بل إلى شبكة ولاءات تدين له بطاعة عمياء، يكرس من خلالها وجوده، وفي شرق ليبيا اليوم، تتجسد هذه الفكرة من خلال تحالفات القبائل والميليشيات التي تدين بالولاء لشخصية خليفة حفتر، فسلطة الرجل لا تنبع من كاريزما فذة، أو من قدرة على الخطابة ببلاغة تسلب الألباب والأذهان، بل من قدرته على توزيع الامتيازات، في شكل أموال ومناصب وألقاب ورتب، لضمان ولاء النخب المحلية، وهنا يصبح الديكتاتور مجرد رمز ترسم تفاصيله السلطات المحيطة به، ويمارس هو القمع اليومي بواسطة أتباع يخشون فقدان الامتيازات قبل أن يخشوا الطاغية نفسه.
يرسم لا بواسييه صورة للديكتاتور تشبه صورة العملاق المقعد، يستمد قوته وسطوته وجبروته من صورته المرسومة بعناية في أذهان الناس، من خلال نشر صوره وتماثيله واقتباسات من فيض حكمه، حتى يشعر الناس أنه حاضر بذاته في كل مكان، فلا مفر منه، واليوم في مناطق نفوذه في ليبيا بداية من سرت ونهاية بطبرق، تعيد آلة الدعاية تأكيد حضور حفتر عبر منصات التواصل الاجتماعي، والقنوات التلفزيونية، واللافتات الضخمة فيالشوارع، ومقاطع الفيديو التي تظهره قائدا مصلحا، يتجول بأريحية –في الشوارع المغلقة قبل حضوره بساعات- ويتفقد المشاريع الضخمة التي تنفذها شركات وصناديق يديرها أبناؤه وأصهاره، هذه الصورة لا تعزز سلطته فحسب، بل تحوله إلى جزء لا يتجزأ من الهوية الجماعية لأتباعه ومناطق سيطرته، حيث يصبح انتقاده مساويا لخيانة الوطن، بل يصبح هو الوطن نفسه.
إن التكرار البصري الذي يقوده خطابه الإعلامي يجسد في نفوس الناس التطبيع مع وجوده والقبول به وبما يترتب على بقائه في سدة السلطة إلى الأبد، وهذه هي الصورة وصفها لا بواسييه بقوله "كلما ترسخت صورة الطاغية في اللاوعي الجمعي، قلت الحاجة إلى قوته المادية".
يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد": "العوام هم قوّة المستبد وقُوته، بهم عليهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهللون لشوكته، يغصب أموالهم، فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض، فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم، يقولون كريما، وإذا قتل منهم ولم يمثل، يعتبرونه رحيما، يسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ، وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة".
وهذه الصورة هي التي شاهدناها في ليبيا سابقا، وما زلنا نشاهدها اليوم، ولكن لماذا لا يثور الليبيون؟
يرى المفكرون السياسيون مثل لا بواسييه والكواكبي وغيرهم أن التحرر يبدأ عندما يرفض الناس الخضوع، لكن اجتماع الناس على رفض الخضوع في ليبيا ليس بالأمر السهل، وتعيقهعوامل عدة؛ كالذاكرة الجماعية لسنوات الفوضى التي أعقبت سقوط القذافي عام 2011، ما حدث من تغول للمليشيات، وانهيار للخدمات، وبروز لجماعات إرهابية دموية يستخدم كورقة ضغط تبرر الطغيان، فلسان حال البعض يقول: "الطاغية شر لا بد منه".
مما يبرر وجود الطاغية في وجدان البعض أيضا؛ الانقسامات والتحالفات القبلية والميليشياويةوالتنافس الشرس على النفوذ، وهو ما يضعف أي تقدم نحو التضامن ضد السلطة، وهو ما تستغله السلطة لتبرير وجودها.
ومع كل ذلك تبدو الحلول التي يقترحها فلاسفة السياسة مثل الثورة السلمية عبر رفضالطاعة صعبة في ليبيا اليوم، لكن وجود بذور التغيير أمر لا يمكن إنكاره، فمع تزايد الوعي بآليات الهيمنة وبروز أصوات ترفض الاختيار بين الطاغية أو الفوضى، قد تبدأ مرحلة جديدة من المقاومة الثقافية، تعتمد على تفكيك أسطورة الصورة وكشف زيف الخطاب الأمني، وإعادة تعريف الحرية بإخراجها من جدلية العبودية أو الفوضى.
إن مقارنة صور الدعاية في شرق ليبيا بتلك التي كانت سائدة في عهد القذافي تظهر استمرارية آليات صناعة القائد الرمز، وكما تعلمنا من التاريخ، فإنه يعيد نفسه باستمرار، لكن الأمل في المستقبل يشير إلى إمكانية التغيير، طالما أن هناك من يتجرأ على رفض الطاعة واستعادة هوية الشعب والأرض وإخراجها من عباءة الدكتاتور الذي قال له أتباعه "أنت الشعب والشعب أنت".