السياسي

الحجاج الحديث لا يحتاج سيفًا يكفيه جمهور مرن!

 الحجاج الحديث لا يحتاج سيفًا يكفيه جمهور مرن!

 الحجاج الحديث لا يحتاج سيفًا يكفيه جمهور مرن!

 

في عالمنا العربي، وخاصة في هذه البقعة الكئيبة التي نسميها ليبيا، وفي خضم الصراعات السياسية والاجتماعية، نجد أنفسنا كثيرا أمام ظاهرة مقلقة، أحب أن أسميها ظاهرة المبادئ المرنة أو المبادئ الفضفاضة؛ ظاهرة تجعل من القيم العليا كالعدالة والحرية وحقوق الإنسان مجرد شعارات قابلة للطي والتعديل حسب الظروف أو حسب الشخص المعني، الفكرة ببساطة هي أن المبدأ لا يتجزأ، فلا يمكنك أن تدافع عنه في حالة وتتخلى عنه في أخرى لمجرد أن الخصم تغير أو أن المشهد اختلف.

وما حصل مع الناشط عبد المنعم المريمي –رحمه الله- مؤخرا، وما تلا وفاته الغامضة من ضجة إعلامية وتكهنات حتى بعد نشر فيديو حاول تفسير الحادثة، يقدم نموذجا صارخا على هذه المعضلة، فالبعض ممن يدعون التمسك بالشفافية والبحث عن الحقيقة، سرعان ما تحولوا إلى تبسيط المأساة أو التشكيك في الروايات الرسمية بشكل مفرط، أو العكس تماما، رأينا أشخاصا قبلوا السردية الرسمية دون تمحيص، لكن السؤال الأهم: هل كان رد فعلهم ليصبح هو نفسه لو كان المتوفى شخصا من حلفائهم السياسيين أو أن حالة الوفاة حدثت في منطقة أخرى؟

وفي إجابة السؤال تكمن الكارثة، وهي تحول القيم والمبادئ إلى مجرد سلع تباع وتشترى.

مات عبد المنعم وأفضى إلى ما قدم، ولكن استخدام دمه كسلاح في حرب أي من الطرفين ضد خصمه لهو في منتهى الحقارة، واستخدام السلطة للمقطع المصور الذي يبرئها من مباشرة القتل، لا يقل دناءة عن استخدام خصومها لموت الرجل –قبل نشر المقطع- لاتهام الحكومة والتنقص منها، ولا يقرأ إلا من باب المثل القائل (رمتني بدائها وانسلت) و (الذي بيته من زجاج لا يقذف الناس بالحجارة).

ولكلا الطرفين نقول إن قضية المريمي ليست سابقة تروى أو حدثا معزولا، فقد سبقها في شرق البلاد وغربها وجنوبها عشرات الحالات من الذين اختطفوا وعذبوا وربما قتلوا، وفي كل الحالات لا ترى إلا صمت القبور من جانب أنصار الطرف المتهم بالفعل.

ولو ألقينا نظرة سريعة على مشهدنا الليبي، سنجد أمثلة مرة لهذا التناقض في التعامل مع الضحايا والأحداث بناء على الهوية والانتماء، فأين الحديث في طرابلس عن عبد المعز بانون أو عن انتصار الحصائري، ولماذا لم نطالب النائب العام بالكشف عن مصيرهما أو الكشف عن المجرم في الحالتين، ولماذا لم نر دعوات لنشر مقاطع مصورة تظهر لنا ما حدث في قضايا النائبتين فريحة البركاوي وسهام سرقيوة أو الناشطة سلوى بوقعيقيص أو حنان البرعصي.

انقطع اتصال الانترنت عن بنغازي لفترة طويلة قبل أن تنجح عملية القضاء على العقيد المهدي البرغثي وزير الدفاع السابق، ولكن لماذا لم يطالب من طالب بالقصاص للمريمي؛ بالقصاص للبرغثي.

لماذا لا نرى مقطع مصور لمحاولة الهروب المزعومة التي يفترض أنها كانت سببا في وفاة سراج دغمان، بل دعك من كل ذلك وطالب بإطلاق سراح النائب إبراهيم الدرسي، القائمة طويلة ومؤلمة، والأسماء أكثر من أن تحصى، وكل حالة منهم كانت اختبارا صريحا لمدى إخلاصنا للمبادئ التي نرفع شعاراتها، والنتيجة غالبا كانت مخيبة للآمل، المبدأ يذوب أمام الولاء للسلطة الحاكمة أو للقبيلة أو للحزب أو حتى للميول الشخصية.

وليس الأمر مقتصرا على القتل والاختفاء، وانظروا إلى التناقض الصارخ في قضية تسليم أبو عجيلة المريمي للولايات المتحدة واسترجاع أسامة انجيم من إيطاليا، فبعض المطالبين بتسليم انجيم إلى المحكمة الجنائية الدولية، هم من الرافضين لتسليم المريمي للولايات المتحدة الأمريكية فإذا كان رفض تسليم المريمي نابعا من مبدأ السيادة الوطنية ورفض التسليم وعدم الثقة في القضاء الأجنبي وحماية الليبي من المحاكم الأجنبية ورفض التدخل، فهذا المبدأ يشمل انجيم وغيره فلماذا تقصرونه على المريمي؟

وإذا كانت أسباب المطالبة بتسليم انجيم هي سيطرة المليشيات وعجز الدولة وضعف القضاء ودولية القضية والحاجة إلى محكمة محايدة، ففيم احتجاجكم على تسليم المريمي؟

ملاحظة: (نحن في علاش نرفض قطعيا تسليم أي مواطن ليبي لدولة أجنبية، وندعو إلى محاكمة ومعاقبة كل المجرمين بدون استثناء في ليبيا)

وهذا هو جوهر المشكلة؛ التبرير المزدوج، فنفس الفعل – تسليم مشتبه به لمحاكمته خارج ليبيا – يرفض بشدة في حالة بحجج السيادة ورفض التدخل وينتقد عدم حدوثه في حالة أخرى بحجج عدم الثقة في القضاء المحلي! المبدأ -رفض التسليم للخارج أو الإصرار عليه- يتغير حسب الشخص المطلوب وحسب من يطلب.

إن تآكل المبادئ يعني تآكل أساس المجتمع، ويعني أن الحق ليس حقا دائما، والعدالة ليست للجميع، ويعني أن الصراع سيبقى أبديا، لأنه لن يكون هناك أرضية مشتركة من القيم الثابتة التي يرتكز عليها الجميع، وعندما يصبح الصواب والخطأ مرتبطين باللون السياسي أو الانتماء الجهوي أو الشخصية، فإننا سنغرق في فوضى أخلاقية لا قاع لها.

قصة عبد المنعم المريمي، وأمثاله الكثر من أبناء ليبيا، ليست مجرد حوادث فردية، بل هي جرس إنذار وتذكير مرير بأن طريق النجاة لا يمر عبر الانتقائية في تطبيق المبادئ، وأن العدالة يجب أن تكون للجميع لا لمن نحب دون من نكره، وأن البحث عن الحقيقة يجب أن يكون منهجا ثابتا بغض النظر عن الضحية أو الجلاد، فرفض التعذيب أو القتل أو الاختفاء القسري يجب أن يكون مطلقا، ورفض انتهاك السيادة أو الدعوة لها يجب أن يكون ثابتا.

التمسك بالمبدأ يعني الدفاع عنه حتى عندما يكلفك ذلك غاليا، وحتى عندما يخدم من لا تحب، عندما نلزم أنفسنا بهذه المعايير؛ سنستحق أن نرفع شعارات الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، فالمبادئ ليست أزياء نغيرها مع الموضة، إنها العمود الفقري لأي مجتمع سوي.

وختاما؛ وكما وقفنا سابقا – بلا تردد – مع كل صرخة مكبوتة، وكل يد مقيدة، وكل اسم اختفى في غياهب السجون، وكما رفعنا صوتنا مطالبين بالحرية لمن نختلف معهم، قبل أن نطالب بها لأصدقائنا؛ نجدد اليوم مطالبتنا المستمرة بالإطلاق الفوري لكل مختطف، والكشف عن مصير كل مغيب، وإنهاء معاناة كل ضحية للإخفاء القسري،

 

فالحرية نفحة إلهية، هبة من خالق السماوات والأرض، لا يحق لبشر مهما علا سلطانه أن يَنتزعها أو يقيدها، أو يخفيها خلف جدران الصمت.