هنا دعوة لزيارة شعب أحادي الخلية؟
منذ أن فهمت ما يدور حولي، وأنا محاط بكمٍّ كبير من الجمل الاعتراضية المشبعة بعبقٍ تاريخي، يُحيلك قائلها إلى حالة خضوع لهذه الجملة، كونها عتيقة. نعم، في الأرض التي أنا منها، هناك تقديس لكل ما هو عتيق. هنا، الزمن يقف فكريًّا، لأن أولئك البشر، الذين هم حسب وصف من حولي (أجدادنا)، يعلمون أكثر منا، رغم أن هذه الفكرة تتعارض منطقيًّا مع كل ما يدور حولي، حيث هناك إجماع بشري بأن أي إنسان يعيش هذا العصر، هو غالبًا أعلم من الكثير من علماء العصور التي سبقتنا، وأكثر منهم تجربة وذكاء، وذلك بقياس كمّ المعلومات وإمكانية الوصول إليها بسهولة، إلا أن هذه الأرض التي أنا منها، لا زالوا يرون أن كل ما هو قديم فكريًّا هو صحيح بالضرورة.
لكن لنرجع إلى عنواننا، كوني دعوتك لزيارة شعب أحادي الخلية، أين هو؟ وكيف يعمل؟
أتفهم جدًا منطقية سؤالك “كيف يعمل؟”، حيث إن من سنن الله في خلقه أن كل الحياة قامت على أساس تعدد الخلايا وتنوعها، ابتداءً من جسم الإنسان، وصولًا إلى كل ما يدور حولنا، ومن غير هذا التنوع، كان من شبه المستحيل استمرار الحياة وتنوعها.
فكيف استطاع شعب أحادي الخلية أن يستمر؟
إجابتي عن هذا السؤال مركبة، حيث نحتاج في البداية فهم مقصدك من (الاستمرار). فمفهوم الاستمرار على أساس الاستنساخ هو موجود، حيث إن هذه السمة مرتبطة بحالة الكائنات أحادية الخلية، هي لا تتطور، هي تستنسخ نفسها، تعاود نفس تركيبتها، وأخطائها، بل تعيد نفس معالجاتها لهذه الأخطاء، وتخضع لحالة (الترقيع) ولا تملك إمكانية مواجهة نفسها بالحقيقة، تخاف من أن تعلم!
نعم، لا تستغرب، هي تخاف من أن تعلم أنها كانت على خطأ، هي تفضل أن تبقى هكذا: لا تعلم، لا تستطيع التعامل مع كونها كانت مخطئة، وأن كل أو جل مسلماتها حول ما يدور حولها من أحداث في هذا العالم خاطئة، بل تجدها، فوق هذا، تعمد بشكل دؤوب إلى إجهاض وإنهاء أي محاولة لجعلها تفهم!
أما لو تقصد بالاستمرار هو الوصول إلى حالة التطوير من كينونتها، فدعني أقول لك إن هذه الحالة غير متوفرة أصلًا، حيث إن كونها أحادية الخلية، فهي بطبيعتها ترفض كل ما هو “آخر” شكلًا، ومنطقًا، ومضمونًا، وفكرًا ، كل ما هو “آخر” هو مُخوَّن وأقل منها، وكلامه عنها باطل بالضرورة. حيث تجدها تعمد إلى نُصرة نفسها وأقرانها في الصح والخطأ، تُلبس الآخر حالة الشيطنة، تعتز بتخلفها، أو بالأحرى هي لا تراه تخلفًا، كما أن كل الخلايا الأخرى المنسجمة وتجاربها، تحاول أن تسيطر عليها في تقديرها، وباعتبارها هي الحقيقة، فبالتالي لن تسمح لتلك الخلايا الأخرى المتخلفة والباطلة بالتأثير عليها.
تجنح دائمًا إلى رمي كل الخلايا الأخرى بالانحلال والتفاهة، لكونها سمحت لنفسها أن تتداخل مع غيرها، لترى العالم بشكل مختلف. بمعنى، هي تعتز بتفردها وانعزالها، وفي نفس الوقت غير راضية عن هذه الحالة، تشعر وتُعبِّر أحيانًا عن سخطها من الاستمرار اللانهائي لنفسها ومشاكلها، لكنها ترتاب وتدخل في حالة هلع في حال لمحت أي طيف يمكن أن يُحدث تغييرًا فيها.
كما ستجد أن الخلية الأحادية خاضعة دائمًا، حيث السردية الواحدة تُنتج حالة واحدة، وبالتالي يسهل انقيادها وخضوعها، حيث فقدها لمعرفة ما يحوي العالم من تفاصيل أخرى، يُسهِّل مهمة أي خلية أحادية مثلها، تملك فقط الجرأة لتتقدم للقيادة، ستجدها أيضا تعشق الأوهام، تميل إلى حالة القهر، تفضل المشهد المازوخي، تقتات على المعاناة، تتباهى بانفرادها بالتخلف، تعتقد بتمحور الكون حولها.
كل هذه الصفات تصنع منها تفردًا لذاتها، وتعمل باستمرار على الحفاظ على استمرار نسلها بالشكل الذي بدأنا به المقال.
لا طريق للخروج من هذه الدوامة (إن أرادت) إلا باقتناع أحادية الخلية بكونها على هامش التاريخ والحاضر، وأن لا مناص لها للخروج من حالتها إلا باندماجها مع خلايا أخرى، وقبل هذا كله، يجب أن تفهم أن الشعب أحادي الخلية لا يمرض، بل ينهار ولا يتطور، بل يُنسخ ولا يعيش، بل يُدار.