السياسي

هل تصمد ليبيا بلا مستبد؟

هل تصمد ليبيا بلا مستبد؟

هل تصمد ليبيا بلا مستبد؟ 

 

لم تكن ليبيا، بحدودها السياسية الحالية، سوى نتيجة للتقلبات والتغيرات في الخريطة السياسية الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، فقبل عام 1951، كانت أرض ليبيا على الدوام مسرحا للتنافس بين القوى العظمى كل في وقته، أو القبائل المحلية كل في دائرة سيطرتها ونفوذها، دون أن تكون لها في أي حقبة زمنية هوية دولة موحدة.

ورغم أن الاستقلال منح الليبيين كيانا سياسيا جامعا، إلا أن هذا الكيان بقي هشا أمام انقسامات قبلية ومناطقية وحتى عرقية؛ عميقة أو سطحية، تكشفت بوضوح بعد سقوط نظام القذافي عام 2011، لتعيد إلى الأذهان سؤالا كان غائبا بحكم الأمر الواقع؛ هل يمكن للوحدة الليبية أن تصمد دون قوة فرضتها السلطة؟ 

مع انهيار النظام السابق، تحول الفراغ السياسي والأمني إلى حاضنة للانقسام، فمنذ الأيام الأولى لثورة 2011، أعلن الشرق الليبي (برقة) خروجه عن سيطرة الدولة المركزية في طرابلس، ليطلق ذلك شرارة حركات طالبت بالحكم الذاتي أو حتى الانفصال، ولكن شعورا غامرا بالوحدة الوطنية سيطر على تجمعات ساحة المحكمة أيام الثورة كان كفيلا بإطفاء مؤقت لهذه النعرات، إضافة إلى براغماتية سياسية من أطراف حالمة كانت ترى أن الاكتفاء ببرقة مع وجود العقيد في طرابلس وفزان هو عبارة عن انتحار سياسي، ووأد لحلم الدولة البرقاوية حتى قبل ميلادها، فتأجلت أحلام الانفصال مؤقتا حتى القضاء على العقيد، وسرعان ما ظهرت هذه الدعوات على السطح بمجرد تحقيق ذلك، وبدأت بعض الأجسام السياسية بالتشكل وعقد اجتماعات لتسويق دعوتها لإحياء دولة برقة، أشهرها ما عرف باجتماع مصنع الصابون سنة 2012، ولكنها أقواها وأكثرها تأثيرا حصل أثناء سيطرة إبراهيم الجضران على الموانئ النفطية ومن ثم تشكيل ما عرف بــالمكتب السياسي لإقليم برقة عام 2014، ليتحول حلم الانقسام من سراب بعيد المنال إلى واقع ملموس، جني ثماره قاب قوسين أو أدنى، ورغم محافظة معظم الطرابلسيين على رؤية الدولة الواحدة ورفض التقسيم؛ إلا أن التحركات البرقاوية تلك الفترة جعلت دعوات الانفصال بطرابلس تجد أصداء تتردد في كل زوايا (الجمهورية الطرابلسية) وبدأ الحديث يتحول من التقسيم أو رفضه، إلى حدود الدول الناشئة، وهل تبدأ من قوس فيليني أو من الوادي الأحمر؟ 

في خضم هذا التشظي، برز اسم خليفة حفتر كقوة عسكرية بدأت تفرض هيمنتها على الشرق منذ مايو2014، حيث بدأ اسم حفتر يتحول من عسكري متمرد في الغرب إلى لواء ثم فريق ثم مشير في الشرق بسط سيطرته عبر عملية الكرامة، محكما قبضته على كل المؤسسات في الشرق، وقامعا أي صوت يعادي حكمه المطلق بما فيها أصوات الانفصاليين.

ويرى مؤيدو هذا التوجه أن حفتر حول الشرق من منطقة تمزقها المطالبات الانفصالية وسيطرة بعض المجموعات ذات الأفكار الجهادية على بعض مناطقه؛ إلى كتلة سياسية وعسكرية متماسكة، رغم انتقاد أساليبه القمعية، بل إن بعض التحليلات تشير إلى أن وجوده منع الانهيار النهائي للدولة وتحولها إلى دويلات. 

لكن هذا الاستقرار المفترض لا يخلو من تناقضات؛ فحفتر الذي يرفع شعار الوحدة، قاد في الواقع حربا ضد حكومة الوفاق الوطني في الغرب سنة 2019، ولا زال يدعم حكومة يقودها على الورق أسامة حماد، تناهض الحكومة التي نتجت عن حوار سياسي قادته بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا سنة 2020، كما أن ظهوره لدى الكثيرين كضامن وحيد وربما أخير لوحدة البلاد؛ مستمد من طموحه للسيطرة على كامل التراب الليبي، لا الاكتفاء ببرقة، بمعنى آخر، الوحدة التي يسعى إليها ليست نتاج رغبة وطنية صادقة، بل هي نتيجة طموح سياسي لحاكم عسكري مستبد لا يريد الاكتفاء بإقليم صغير بل يطمح لحكم دولة مترامية الأطراف، وهنا يكمن المأزق: فمن يرفض ديكتاتورية حفتر (بتهميشه للمؤسسات السياسية وقمعه للمعارضة) يجد نفسه أمام فرضية مقلقة: ماذا لو غاب الرجل؟ هل ستعود الدعوات الانفصالية بقوة أكبر؟ التاريخ الليبي الحديث يشير إلى أن القبائل والمناطق والنعرات تتحرك لملء الفراغ عند غياب السلطة المركزية القوية، وهذا يطرح إشكالية أخلاقية: هل نقبل التضحية بالديمقراطية وحقوق الإنسان مقابل الحفاظ على الوحدة الجغرافية؟ 

التجارب العالمية تظهر أن الأنظمة الاستبدادية قد تحقق استقرارا قصير المدى، لكنها تزرع بذور أزمات أعمق، فوحدة ليبيا الحقيقية لا يمكن أن تبنى على الإكراه العسكري، بل على عقد اجتماعي جديد يشارك فيه كل الليبيين، شرقا وغربا وجنوبا، في صياغة نظام لا مركزي يحفظ حقوق الجميع، ويوازن بين الهوية الجامعة (الدين، اللغة، التاريخ) والخصوصيات المحلية، أما الاعتماد على شخصيات كمعمر القذافي وخليفة حفتر، فهو تأجيل للأزمات، وليس حلا لها.

ليبيا اليوم أمام خيارين صعبين؛ إما الاستمرار في هدنة قائمة على هيمنة عسكرية تقمع الانقسامات مؤقتا، أو المخاطرة بحرب أهلية جديدة عند غياب القوة الضابطة، لكن الحل الثالث، رغم صعوبته، يبقى الأجدى والأنفع على المدى البعيد، وهو بناء مؤسسات تعيد تعريف الوحدة الوطنية ليس كأرض تحكم بالقوة، بل كمشروع مشترك يرتضيه الليبيون طوعا، فالدول لا تصنع فقط من خلال رجال أقوياء، بل عبر إرادة شعب يؤمن بأن وحدته وحقه في الوجود والحرية أهم من صراعات النفوذ.