تُعد قضية الهجرة غير الشرعية في ليبيا من أكثر الملفات تعقيداً في المنطقة؛ إذ باتت ليبيا، نظراً لموقعها الجغرافي المتوسطي وارتباطها الجغرافي بالقارة الأفريقية، نقطة عبور رئيسية نحو الشواطئ الأوروبية. وقد أسهمت الأوضاع الأمنية والسياسية المضطربة في تفاقم الظاهرة، حيث أصبحت ليبيا مركزًا رئيسيًا لتجمع المهاجرين. ما زالت هذه الظاهرة تلقى اهتمامًا واسعًا من المجتمع الدولي، وخصوصًا من الاتحاد الأوروبي الذي يبذل جهودًا مضنية لمحاولة السيطرة على تدفق المهاجرين.
ومع ذلك، فإن دور بعض المنظمات، وكذلك الجهات الأمنية الليبية، أُثيرت حوله شُبهات عدة، إذ يتحول المهاجرون في هذا البلد إلى “سلع بشرية” في سوق مفتوح للاستغلال. في هذا التحقيق الاستقصائي، سنتناول هذه الظاهرة من خلال محورين رئيسيين، نسعى فيهما إلى إلقاء الضوء على أبعاد الأزمة، مدعمة بإحصاءات وشواهد ميدانية، وتحليل للمصادر الموثوقة حول الأرقام والأحداث.
المهاجرون في ليبيا - من هم وما هي دوافعهم؟
إحصاءات الهجرة تشير إلى أن ليبيا تضم قرابة 725,000 مهاجر، قادمين من 44 جنسية، وذلك وفق بيانات برنامج تتبع النزوح للمنظمة الدولية للهجرةIOM من مارس حتى مايو 2024 ، يقطن هؤلاء المهاجرون في نحو 100 بلدية موزعة في جميع أنحاء ليبيا، حيث تمثل مدن طرابلس، بنغازي، ومصراتة أبرز مناطق التجمعات بسبب فرص العمل المتاحة في قطاعات مثل البناء والزراعة، إضافةً إلى فرص العمل في المناطق الساحلية الشمالية .
غالبية هؤلاء المهاجرين يستخدمون ليبيا كنقطة عبور، حيث تأتي النسبة الأكبر منهم من دول إفريقيا جنوب الصحراء، مثل النيجر (25%)، ومصر (22%)، والسودان (20%). لكن بعضهم يفضل البقاء مؤقتاً بسبب الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في بلدانهم، ويستغلون وجودهم في ليبيا لتحسين أوضاعهم المالية، خاصة من جنسيات مثل بنغلاديش وباكستان .
دوافع القدوم إلى ليبيا لا تقتصر على العبور إلى أوروبا فقط، إذ يدفع الصراع المستمر في دول مثل السودان وسوريا البعض للجوء إلى ليبيا كملاذ مؤقت. على سبيل المثال، قدرت مصادر في بلدية الكفرة الليبية وجود حوالي 17,000 مهاجر سوداني، بعضهم وصل نتيجة النزاعات في أبريل 2023، مما يؤكد دور ليبيا كنقطة تجمع للهاربين من الصراعات المجاورة
تعكس هذه الأرقام والدوافع التنوع في خلفيات وأهداف المهاجرين في ليبيا، حيث تتراوح غاياتهم بين العبور إلى أوروبا أو السعي للاستقرار المؤقت والاستفادة من فرص العمل المتاحة لتحسين أوضاعهم.
القدوم إلى ليبيا: بين العبور والاستقرار
تظهر البيانات أن دوافع الهجرة إلى ليبيا ليست موحدة، حيث يختلف الهدف من القدوم ما بين العبور إلى أوروبا والعمل المؤقت لتحقيق استقرار اقتصادي، وفقًا لتقارير منظمة الهجرة الدولية، يتجه حوالي 86% من المهاجرين إلى ليبيا لأسباب اقتصادية، بينما تتزايد نسبة الهجرة من جنوب آسيا وشرق إفريقيا بسبب النزاعات في بلدانهم ، هذه الأوضاع الاقتصادية المعقدة في ظل التحديات الأمنية، تجعل ليبيا وجهة مؤقتة أو خيارًا للاستقرار لبعض المهاجرين، رغم الصعوبات التي يواجهونها في سوق العمل المحلي، حيث ترتفع معدلات البطالة بينهم إلى 22% في الغرب و39% في الجنوب (IOM, 2024).
على سبيل المثال، نجد أن محمد كوناري من بنين عندما قابلناه قال لنا أنه جاء بدعوة من صديقه للعمل في ليبيا، بينما نافع من بنغلاديش وصل بوساطة شركة توظيف بهدف جمع المال للهجرة إلى أوروبا ، قصص مثل شادي الحمصي من سوريا توضح كيف يجد بعض المهاجرين في ليبيا فرصة للاستقرار المؤقت، رغم المضايقات، نظرًا للظروف الأكثر استقرارًا مقارنة ببلدانهم الأصلية.
فيما يتعلق بالظروف الاقتصادية، تُظهر التقارير أن حوالي 64% من المهاجرين يحصلون على وظائف من خلال شبكاتهم الاجتماعية، مما يسلط الضوء على ضعف النظام المهني المتاح، حيث يعتمدون على معارفهم لتأمين وظائف ذات دخل محدود في قطاعات مثل البناء والزراعة ، حوالي 30% من المهاجرين يعانون من تأخر الرواتب وانخفاض الأجور المتفق عليها، ما يزيد من التحديات التي يواجهونها للعيش بكرامة (IOM Libya, 2023-2024).
يتضح من الحالات السابقة أن دوافع الاستقرار أو العبور ليست ثابتة؛ إذ يمكن أن تتغير رغبة المهاجر بناءً على المستجدات الأمنية أو الاقتصادية. فعندما تتأزم الأوضاع الأمنية في مدينة ما، كما حدث في مدينة الكفرة في 2012، يُجبر المهاجرون على الانتقال داخل ليبيا أو ربما الاستقرار لأجل غير مسمى. بمعنى أن اختيار البقاء أو المغادرة يتغير بتغير المعطيات.
الجهات الضبطية والاستغلال غير القانوني للمهاجرين :
الجهات الضبطية الليبية كان من المفترض أن تلعب دورًا في تنظيم تواجد المهاجرين وتحسين أوضاعهم، لكن تقارير عديدة تؤكد تعرض هؤلاء المهاجرين لاستغلال واسع. وفقًا لتقرير صادر عن المنظمة الدولية للهجرة (IOM) في مارس 2023، تعاني مراكز الإيواء الليبية في مدن مثل طرابلس وبنغازي وشحات من نقص حاد في الغذاء والرعاية الصحية، مما يُعرض المهاجرين لمخاطر صحية كبيرة، حيث لا يحصلون غالبًا إلا على احتياجاتهم الأساسية، مثل الطعام والماء، كتعويض عن أعمال شاقة يُجبرون على أدائها مثل التنظيف والبناء.
وفي مثال صارخ على سوء المعاملة، ذكر لنا مهاجر مصري يدعى سعيد أن المحتجزين يُجبرون على التبرع بالدم بشكل قسري، حيث تم توثيق حالته من مركز طبرق، حيث تعرض للتهديد بالعنف في حال رفض. هذا النوع من الاستغلال يُعبر عن الانتهاكات المتكررة داخل مراكز الإيواء، التي تتضمن أيضًا عمليات الاتجار بالبشر وأحيانًا الاستغلال الجنسي، خاصة للنساء اللاتي يُواجهن تهديدات مضاعفة بسبب غياب الأمان.
وفقاً لتقديرات أخرى، تشمل ظروف الاحتجاز وسوء المعاملة أيضًا تعرض المهاجرين لظروف صحية غير ملائمة، حيث أفاد تقرير MICOL التابع للمنظمة الدولية للهجرة بوجود مشكلات صحية كبيرة مثل قلة النظافة ومحدودية الرعاية الصحية في هذه المراكز، وهو ما يُعرض المهاجرين لمخاطر صحية طويلة الأمد، كما يزيد من صعوبة وصولهم إلى الدعم الطبي الضروري.
الاتجار بالبشر وبيع الأعضاء
في ليبيا، يتجاوز استغلال المهاجرين أساليب الاستغلال التقليدي، حيث يتم توثيق حالات متعددة من الاتجار بالأعضاء البشرية، مما يجعل البلاد نقطةً مركزية لهذه الجريمة في منطقة شمال إفريقيا، تقارير الأمم المتحدة ومصادر محلية توضح أن عدة شبكات متورطة في عمليات اختطاف مهاجرين بهدف بيع أعضائهم أو ابتزاز عائلاتهم بمبالغ مالية كبيرة. على سبيل المثال، في أواخر عام 2022، كشفت الشرطة في سبها عن شبكة إجرامية متورطة في اختطاف مهاجرين سودانيين وابتزاز أسرهم، حيث يواجه هؤلاء المهاجرون ظروفاً قاسية تشمل التعذيب والاستغلال الشديد.
كما أظهرت التحقيقات، التي نشرها النائب العام الليبي، عن وجود شبكة تتخذ من المؤسسات الصحية غطاءً لنشاطات بيع الأعضاء، حيث تم توثيق حالات لمهاجرين قُتلوا بغرض استخراج أعضائهم وبيعها، وقد أكدت تقارير صادرة عن الأمم المتحدة في يوليو 2023 أن هذه الانتهاكات تشمل التعذيب وسوء المعاملة والاختفاء القسري، خاصة في المناطق الجنوبية والشرقية، حيث يتعاون بعض الفصائل المسلحة مع هذه الشبكات الإجرامية لإدارة تجارة البشر وبيع الأعضاء (OHCHR, 2023) .
علاوةً على ذلك، تم في عام 2021 إلقاء القبض على طبيب مصري بتهمة شراء أعضاء بشرية من المهاجرين وبيعها، حيث أُدين بانتحال صفة طبية، وأثبتت التحقيقات أن ممارساته تسببت في وفاة أحد المهاجرين خلال عملية غير قانونية (RUSI, 2023) .
هذه الظروف تعكس ضعف الرقابة وغياب التشريعات الصارمة لمكافحة الاتجار بالبشر في ليبيا، في ظل تزايد شبكات التهريب واستمرار تدفق المهاجرين الذين يواجهون خطر الاختطاف أو الاستغلال بمجرد دخولهم الأراضي الليبية.
الاستغلال الجنسي للمهاجرين
التقارير الحقوقية حول الاستغلال الجنسي للمهاجرين في ليبيا تؤكد أن الاستغلال يتم بشكل منهجي، خاصة في مراكز الاحتجاز التي تديرها جهات حكومية أو جماعات مسلحة. تشير مصادر متعددة، مثل تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2022، إلى أن العديد من المهاجرين يتعرضون لمعاملة قاسية تشمل الابتزاز الجنسي من قبل أفراد أمنيين، حيث يُجبرون على تقديم “خدمات” مقابل تيسير إجراءاتهم القانونية.
يُعد المهاجرون من النساء والأطفال من الفئات الأكثر عرضة للانتهاكات الجنسية، إذ تتعرض الكثير من النساء، بمن فيهم الفتيات الصغيرات، للاعتداء والاستغلال الجنسي في مراكز الاحتجاز أو خلال التنقل بين المناطق الحدودية. أوضحت الأمم المتحدة أن هذه الانتهاكات تحدث على نطاق واسع بسبب غياب الإشراف الدولي والمحلي، مما يترك المهاجرين في حالة من الضعف المستمر أمام الاستغلال من قبل أفراد الأمن والجماعات المسلحة التي تسيطر على مرافق الاحتجاز في المناطق الغربية والجنوبية من البلاد.
وفقًا لتقرير هيومن رايتس ووتش لعام 2024، تستغل السلطات والجماعات المسلحة الوضع المعقد للمهاجرين، وتجبرهم على العمل القسري أو الاستغلال الجنسي في ظل غياب قوانين تضمن حقوقهم. إلى جانب ذلك، يعاني المهاجرون من الابتزاز المالي في محاولاتهم لتحرير أنفسهم من هذه الظروف القاسية، حيث يطالبهم المسؤولون بدفع رشاوي لإتمام إجراءات قانونية بسيطة مثل تصاريح الإقامة.
دور المنظمات الدولية - شبهة “سوق النخاسة”
تظهر تقارير حقوقية أن بعض المنظمات الدولية التي يُفترض أنها تقدم مساعدات إنسانية للمهاجرين في ليبيا قد وُجهت لها اتهامات بإجراء “فحوصات” للمهاجرين لاختيار أفضلهم صحةً ونقلهم إلى أوروبا، وفقاً لمصادر مثل منظمة العفو الدولية، يتم اختيار هؤلاء المهاجرين من مراكز احتجاز تفتقر للرقابة، فيما يُترك الآخرون لمصير مجهول في مراكز يعانون فيها من ظروف سيئة للغاية، تشمل الإهمال وسوء التغذية والاستغلال. هذه الممارسات أثارت شكوكاً حول شفافية وفعالية بعض المنظمات الإنسانية العاملة في ليبيا، حيث أشارت التقارير إلى حدوث حالات ابتزاز واستغلال في هذه المراكز.
رغم أن العبودية التقليدية انتهت رسميًا، إلا أن المهاجرين في ليبيا أصبحوا ضحية لأساليب استغلال حديثة لا تقل قسوة. من الابتزاز المادي إلى الاتجار بالأعضاء، وصولاً إلى الاستغلال الجنسي، يتم التعامل مع المهاجرين كسلع ضمن سوق مفتوح للاستغلال. ويظل تواطؤ بعض الجهات الضبطية واستغلال بعض المنظمات لهذه الأوضاع عاملًا رئيسيًا في تفاقم المشكلة.
يتطلب الوضع إجراءات عاجلة وحازمة من المجتمع الدولي، لضمان وضع حد للاستغلال غير الإنساني، وحماية حقوق هؤلاء المهاجرين، الذين باتوا ضحية لمعادلة العرض والطلب القاسية.