الأحزاب السياسية . تأثيرها وتأثرها بالحياة السياسية في ليبيا
نظرة عامة:
تعتبر الأحزاب في الحياة السياسية المعاصرة هي العمود الفقري للعملية السياسية الديمقراطية، فكما أن الديمقراطية المعاصرة هي حكم الشعب عن طريق ممثلين منتخبين عن الشعب، فإن الأحزاب السياسية هي الوسيلة لتأطير هؤلاء الممثلين المنتخبين وجمعهم في تيارات سياسية وأيديولوجية تمثل فئات الشعب التي انتخبتهم.
فالحزب السياسي حسب التعريف الذي أوردته موسوعة ويكيبيديا: هو منظمة تنسق بين المرشحين للمنافسة في انتخابات بلد معين. يتبنى أعضاء الحزب غالبًا أفكارًا متشابهة حول السياسة، ويمكن للأحزاب أن تروج لأهداف أيديولوجية أو سياسية محددة.
وللحديث عن الأحزاب السياسية في ليبيا لا مناص من الحديث عن الحياة السياسية في المقام الأول، وللحديث عن الحياة السياسية في ليبيا يجب الخوض في جدلية قيام الدولة الحديثة في ليبيا، متى حدث ذلك؟ أو بالأحرى هل حدث ذلك أصلا؟
لم تشهد الدولة الليبية منذ قيامها في 24 ديسمبر 1951م أي حياة سياسية صحية وناضجة بالمعنى السليم، فالحياة السياسية التي تنظمها الأحزاب كروابط ومنظمات لتنسيق المواقف السياسية والأيديولوجية لم تخلق في البلد أصلا، حيث شهدت ليبيا قبل ثورة السابع عشر من فبراير نظامي حكم مختلفين اختلافا كاملا غير أنهما اتفقا في منعهما للأحزاب السياسية.
ففي عهد المملكة الليبية دعا الملك الراحل إدريس السنوسي عام 1952م إلى حل جميع الأحزاب السياسية، على خلفية الاضطرابات التي وقعت في 19 فبراير من نفس العام بين الشرطة والمواطنين، بعد تشكيك حزب المؤتمر الوطني في نزاهة الانتخابات آنذاك، واستمر حظر الأحزاب السياسية منذ ذلك الحين حتى الأول من سبتمبر1969م حيث انقلبت مجموعة من الضباط العسكريين بقيادة الملازم أول معمر القذافي على النظام الملكي ليمهد هذا الانقلاب لحكم شمولي دكتاتوري سيأخذ منحنى أكثر عنفا مع الأحزاب السياسية ومع الحياة السياسية بشكل عام، حيث أصدر نظام القذافي القانون رقم (17) لسنة 1972 م بشأن تجريم الحزبية؛ حيث نص هذا القانون على منع تأسيس الأحزاب السياسية منعا باتا، وشكك في نواياها، وأعلن النظام الجديد عداءه التام لها، وصل إلى حد التجريم والاتهام بالخيانة للوطن، وتضمنت إحدى مواده بأن ممارسة الحياة الحزبية خيانة في حق الوطن، وتبلور ذلك بشكل واضح في مقولات "الحزبية إجهاض للديمقراطية" و "من تحزب خان" التي أوردها القذافي في كتابه الأخضر الذي استمر لعقود دستورا وحيدا للبلاد حتى الإطاحة بالنظام الجماهيري عام 2011م.
وبعد الإطاحة بالقذافي بدأت البلاد تشهد بواكير صحوة سياسية، خاصة بعد قيام المجلس الوطني الانتقالي –الذي تأسس لتوحيد الجهود الشعبية للإطاحة بالنظام السابق- بإلغاء تجريم الحزبية السياسية، وبدأ في تقنين عمل هذه الأحزاب لإحداث إطار تشريعي لها، حيث جاء في المادة الرابعة من الإعلان الدستوري المؤقت الصادر عن المجلس الوطني الانتقالي عام 2011م "على أن تكون الحياة السياسية في ليبيا مبنية على التعددية السياسية والحزبية"، وكفل حرية تكوين الأحزاب السياسية.
وبالفعل شهدت البلاد منذ سنة 2012 طفرة في تشكيل الأحزاب السياسية، توحي هذه الطفرة بحماس وشوق لدى النخب السياسية لممارسة العمل السياسي المنظم، ولكنها تشي في نفس الوقت باندفاع غير مدروس نتج عنه تشكيل عشرات الأحزاب يفترض أنها ستتنافس فيما بينها للوصول إلى الحكم، مع أن كثيرا منها يحمل نفس الأيديولوجية السياسية، والمنطق يفترض أن توحد هذه الأحزاب جهودها للوصول إلى الحكم لا أن تتنافس فيضعف بعضها بعضا، وبالتالي يضعف فرصها في قيادة مؤسسات الدولة وفقا للأيديولوجية التي تتبعها.
ومع ما أوحت به الطفرة الحزبية من بوادر أمل لحياة سياسية صحية ودولة عصرية ديمقراطية، إلا أن ذلك الأمل لم يلبث أن تبدد، بتنافس الأحزاب نفسها للوصول إلى السلطة عن طريق الاستقواء بالمليشيات المسلحة والعسكر، فأسست بعض المجاميع الأيديولوجية التي تمتلك مؤسسات حزبية؛ أذرعا عسكرية تمثلها في الصراع المسلح في ظل انعدام أي سيطرة لأجهزة الدولة على المؤسسات الأمنية والعسكرية، وبدأت هذه الأذرع العسكرية في تخريب الحياة السياسية من حيث لا تشعر، وبعد ضغطها –سياسيا حينا ومليشياويا أحيانا- لحياكة قوانين وتشريعات لاستبعاد أشخاص وجهات من المشهد السياسي لأنها ترى أنها تمثل تهديدا لمشروعها في إقامة الدولة، بدأ الصراع على الحكم يأخذ منحنى خطيرا وبدأت الجهات التي يراد استبعادها في استخدام نفس الوسائل – الضغط المليشياوي والاقتحامات- لتدفع باتجاه إبعاد المؤتمر الوطني العام وإخراجه من المشهد وإقامة انتخابات جديدة لينتج عنها مجلس نواب جديد، ولكن الضربة القاضية لمشروع الدولة الحديثة الناشئة وجهتها هذه الأحزاب لنفسها من حيث لا تشعر، فظن كل من المتنافسين في أروقة المؤتمر الوطني العام أنه قادر على تحريك الشارع باتجاه دعمه دون الحاجة لإطار حزبي، فتم الاتفاق على أن يتم استبعاد الأحزاب من انتخابات مجلس النواب ويكون الترشح لعضوية المجلس عن طريق قوائم أفراد فقط.
مجلس النواب الذي كان يراد له أن يبقى في المشهد لمدة عام ونصف فقط، يؤسس خلالها لدستور دائم وانتخابات تشريعية لجسم ينبثق عن الدستور؛ استمر معنا حتى اليوم، ومازال يقاوم أي توجه لإقامة انتخابات تبعد أعضاءه الأفراد عن المشهد، وسيظل يقاوم حتى النهاية، لأن أعضاءه يعلمون أن خروجهم من أروقة المجلس يعني إبعاد الغالبية العظمى منهم عن المشهد السياسي أو المصلحي ربما إلى الأبد، ومع غياب العمل الحزبي المنظم للعمل السياسي عن أروقة مجلس النواب، عادت البلاد للمربع الأول، التكتلات الجهوية والقبلية والمناطقية، وأصبح أعضاء مجلس النواب أنفسهم أعداء للمشروع الحزبي لأنه مشروع فكري أيديولوجي عابر للألوان والأعراق والقبائل ويجمع الأشخاص الذين يتبنون نفس الفكر بغض النظر عن قبائلهم ومناطقهم، وكأن هذا ليس كافيا في ذاته لضرب مشروع الدولة الحديثة في مهده، ظهر في سنة 2014 مشروع الدولة العسكرية الاستبدادية، والذي تدعمه –ويا للعجب العجاب- أحزاب سياسية!!
ومع ما ذكرنا فإننا نميل إلى الرأي الذي يقول بأن الدولة الحديثة في ليبيا لم تقم أصلا، وإن كل مشاريع إقامة هذه الدولة وئدت في مهدها، أو ماتت قبل أن تولد.
الأيديولوجية السياسية للأحزاب الليبية:-
ذكرنا سابقا أن الأحزاب هي منظمات تنسق بين المرشحين للمنافسة في الانتخابات، وأن أعضاء الحزب يتبنون أفكارا متشابهة حول السياسة، وأن الحزب يروج لأهداف أيديولوجية أو سياسية محددة.
وللأحزاب السياسية عالميا وتاريخيا أيديولوجيات ومشارب كثيرة ومتعددة من دعوة للمساواة في نقيض الدعوة للتسلسل الهرمي الطبقي، والماركسية الشيوعية في مقابل الرأسمالية، ومن العرقية القومية ضد الوطنية الجامعة، ومن الدينية الأصولية ضد العلمانية والتحررية وغيرها، ولكن يجمع كل ذلك إطار متعارف عليه منذ القرن الثامن عشر إبان الثورة الفرنسية، وهو تقسيم التوجهات والعقائد السياسية إلى يمين ويسار، يمين عادة ما يكون قوميا أو فاشيا أو دينيا، ويسار عادة ما يكون علمانيا لبراليا رأسماليا.
وظهر المصطلحان "يمين" و " يسار" خلال الثورة الفرنسية عام 1789 عندما انقسم أعضاء الجمعية الوطنية إلى مؤيدي الملك وكانوا (مصادفة) جالسين على يمين رئيس الجلسة، ومؤيدي الثورة على يساره، ومع أن الصدفة المحضة هي التي قادت إلى هذا التقسيم؛ إلا أنه مازال منذ ذلك الحين معتمدا لتصنيف الأحزاب السياسية في جميع أنحاء العالم.
وأضيف إليه على مر السنوات تصنيفات ضمنية داخل التصنيف نفسه، العنصري المتطرف يقال له يميني متطرف، والداعي إلى دولة مدنية بخلفية دينية يقال له يمين معتدل، والداعي إلى إقامة دولة علمانية تمنع الممارسات الدينية هو يساري متطرف، واليساري المعتدل هو الذي يدعو لإبعاد الدين عن السياسة مع القبول بتأثيره على الحياة الخاصة والعامة، كما ظهر أيضا مصلح الوسط، وهو الذي يميل أصحابه إلى الجمع بين الأيديولوجيتين اليمينية واليسارية ويطلقون على أنفسهم اسم "المعتدلين".
المقدمة السابقة ضرورية للخوض في إيديولوجيات الأحزاب السياسية الليبية، ففي الساحة الليبية اليوم توجد عشرات الأحزاب السياسية، (لم نتمكن من الحصول على الرقم الحقيقي لأن أجهزة الدولة تعامل هذه المعلومات العامة معاملة أسرار الدولة وبالتالي تعيق حق المواطن في الوصول إلى المعلومة الذي هو حق أصيل يفترض بالدولة أن تحميه لا أن تعيقه)، هذه العشرات من الأحزاب يحمل بعضها أسماء تكاد تكون مكررة، دون أن تكون لها أيديولوجية محددة، ومعظم هذه الأحزاب لا تنشر أدبياتها أو تعريفات واضحة بها وبتوجهاتها وسياساتها وأعضائها، أغلب الأحزاب تنشئ صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي لنشر أخبارها ونشاطاتها وبياناتها (تهاني بمناسبات دينية ووطنية وتعازي ونعوات لأعضاء الحزب أو أقاربهم) مع وجود روابط لمواقع على شبكة المعلومات ولكن هذه الروابط عادة لا تعمل، الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان دراسة معظم الأحزاب الليبية وتحديد أيديولوجياتها وتوجهاتها وبالتالي اختيار التصويت لها من عدمه.
ومع تتبع ما ينشره أعضاء بعض الأحزاب وما يقولونه في مقابلات صحفية وتلفزيونية عن توجهاتهم وميولهم السياسية، فإنك ستجد –ويا لها من مفارقة- أن الغالب الأعم من الأحزاب –إن لم تكن كلها- تدعي الميول السياسية والأيديولوجية الوسطية المعتدلة، أحزاب اليمين –الأحزاب الناشئة من تيارات دينية- ستقول إنها أحزاب وسطية معتدلة تحارب التطرف، وأحزاب اليسار-على قلتها- لن تصرح بلبراليتها، وإن فعلت فإنها ستدعي الوسطية أيضا، والسؤال هنا إذا كانت كل أحزابنا وسطية وطنية معتدلة؛ لماذا تتنافس؟ ولماذا لا تندمج في حزب واحد يعكس حقيقة المشاريع السلطوية الاستبدادية التي تمثلها معظم هذه الأحزاب؟
إن الامتناع اللافت لمعظم الأحزاب السياسية الليبية عن إظهار ونشر أدبياتها وتوجهاتها ليشي في الواقع بأمرين لا يقلان خطورة عن بعضهما البعض؛ الأول هو غياب الرؤية والأيديولوجية حقيقة عن معظم هذه الكيانات التي تسمى أحزابا، والثاني هو فكرة أن معظم أحزابنا هي في الحقيقة مجرد دكاكين بقالة يسترزق من ورائها أصحاب الحزب ومؤسسوه عن طريق تسويق المبادئ والأفكار التي تجلب لهم نفعا أكبر ومناصب أعلى.
تمويل الأحزاب:-
الجزء السابق من بحثنا يقودنا إلى مبحث مهم جدا هو تمويل الأحزاب السياسية.
نصت المادة رقم (40) من مشروع الدستور الذي صاغته هيئة صياغة مشروع الدستور في 2017م والذي لم يخرج إلى النور باستفتاء شعبي حتى الآن! على أن ""لكل مواطن حق اختيار توجهاته السياسية، وتضمن الدولة حرية تكوين الأحزاب السياسية القائمة على الوحدة الوطنية، وشفافية التمويل، ونبذ العنف، وخطاب الكراهية، ولكل مواطن حق الانضمام إليها، أو الانسحاب منها دون أي تمييز".
كما اشترط قانون رقم (29) لسنة 2012 م بشأن تنظيم الأحزاب السياسية؛ في مادته الثامنة المتعلقة بالتصريح للحزب بممارسة نشاطه (علانية مبادئه وأهدافه ووسائله ومصادر تمويله).
وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة التي يكتسيها موضوع شفافية مصادر التمويل إلا أنه لم يلق الاهتمام الكافي في الأوساط السياسية الليبية، فلا تكاد تسمع صوتا لمتحدث يسأل عن مصادر تمويل الأحزاب السياسية الليبية، من أين تغطي نفقاتها، وإجارات مبانيها ومقراتها، ومصاريف ندواتها ومؤتمراتها، ولاحقا حملاتها الانتخابية؟
ومن المعروف أن الأحزاب السياسية هي منظمات غير ربحية لا تمارس أي نشاط يدر أموالا، وأن مصادر تمويلها عادة هي المساهمات التي يدفعها أعضاء الحزب مقابل عضوياتهم، والتبرعات الشعبية من خلال المواطنين الداعمين لفكر الحزب ورؤيته وأيديولوجيته، ومن خلال الهبات والمساعدات التي ترد من أثرياء ورجال أعمال وشركات والتي عادة ما تكون مرتبطة بمصالح يسعى هؤلاء لتحقيقها من خلال دعمهم للحزب.
وبتحليل المصادر المعروفة سالفة الذكر؛ ستجد أن المساهمات والاشتراكات هو أمر بعيد المنال في ليبيا، لأن ثقافة الانتماء إلى الأحزاب غير موجودة في المجتمع الليبي، معظم الليبيين ولد وترعرع في نظام من تحزب خان، فلن ينتمي معظمهم لحزب أصلا فضلا عن أن يدفع المال مقابل هذا الانتماء.
فكرة التبرعات الشعبية هي غير موجودة أصلا في ليبيا، فهي تتطلب مجتمعا ترسخت فيه الديمقراطية، ومارس العملية الانتخابية لسنوات طويلة، لا مجتمعا مارس الانتخابات مرتين فقط، إحداهما لم تشهد وجود الأحزاب أصلا.
تبقى فكرة الهبات والمساعدات من الأثرياء والشركات، وإن كان يصعب نفي هذه الفكرة كما نفينا سابقاتها؛ فإنها ستتطلب أيضا عملية انتخابية ديمقراطية راسخة تشجع رجل الأعمال على دعم حزب سيدعم توجهه، أما في الحالة الليبية فنجد من الصعب القبول بفكرة أن شخصا سيدعم بحر ماله كيانا سياسيا لدخول انتخابات قد لا تجرى أصلا!
وهنا نرجع إلى السؤال الذي بدأنا به مبحثنا؛ من أين تمول الأحزاب الليبية نشاطاتها، ولاحقا حملاتها الانتخابية؟
منظمات سياسية أم بقالات نفعية:-
يقول الدكتور المهدي الشيباني دغمان : "ولكي نميز بين الأحزاب السياسية وبقية المنظمات الأخرى التي تتـداخل معهـا وضع اثنان من السياسيين الامريكيين جوزيف لابالومبارا وميرون ويينر أربعة معايير في هذا الشأن هي:
التنظيم الدائم، أن الأحزاب السياسية تتميز بــتنظيم لديه القدرة على البقاء والاستمرار بقادته حتى بعد اختفاء مؤسسـيه.
2. أن يكون التنظيم منتشرا على المستوى الوطني من خلال مراكز محلية تـرتبط بعلاقة وثيقة مع المركـز الـوطني أو القـومي، هـذ ا الانتشـار الـوطني يستلزم تأسيس وحدات أساسية في جميـع أنحاء البلاد.
3. الرغبة الصريحة للوصول إلى السلطة السياسـية التـي غالبا ما تترجم بـالتقدم إلى الانتخابات، من خلال هذا المعيـار نسـتطيع أن نميز الأحزاب السياسية عن جماعات المصلحة.
4. المعيار الرابع والأخير هو الحصول على الدعم الشعبي المعتمد على أنصار ونشـطاء مناضـلين وناخبين."
انتهى النقل بتصرف من بحث (الأحزاب السياسية .. التفاتة سوسيولوجية) للدكتور المهدي الشيباني دغمان.
ويرى الدكتور دغمان في بحثه أن ما يميز الأحزاب السياسية عن جماعات المصلحة التي أطلقنا عليها سابقا اسم دكاكين البقالة، أربعة معايير رئيسية، أولها التنظيم الدائم وقدرة الحزب على الاستمرار حتى بعد اختفاء قادته ومؤسسيه ومنظريه.
وهناك كيانات تطلق على نفسها اسم أحزاب وهي لا تتمتع بهذه الصفة، بل إنها فقدت بريقها تماما بفقدان مؤسسها ومنظرها وأصبحت والعدم سواء، وقد صوت عدد كبير من الناس في انتخابات المؤتمر الوطني عام 2012 لحزب معين بسبب رئيسه، هذا الحزب المعين سيدخل الانتخابات القادمة حال إجرائها وقد فقد مؤسسه ومنظره الأول وفقد معه اسمه وصيته، فهل هو قادر على الاستمرار والحصول على ثقة الناس بدون الاسم اللامع الذي حبر الناس أوراق الاقتراع لأجله سنة 2012.
وهناك حزب قائم على اسم حملة عسكرية قادها مغامر عسكري حالم بعودة الاستبداد، هذا الحزب سيستمد زخمه الانتخابي من اسم الحملة العسكرية وقائدها، ولكن هل يحمل هذا الحزب مشروعا يكفل له الاستمرار بعد غياب قائد الحملة، وبعد أن تفقد الحملة بريقها ولا يبقى من اسمها إلا حديث الناس عنها بين مادح وقادح؟
نعود إلى معايير الدكتور دغمان واعتباره أن يكون التنظيم منتشرا على المستوى الوطني من خلال مراكز محلية تـرتبط بعلاقة وثيقة مع المركـز الـوطني أو القـومي، هو معيار آخر للتفريق بين الأحزاب والدكاكين.
قامت بعض الأحزاب سنة 2012 بتأسيس فروع لها في معظم المدن الليبية، ومن هذه الأحزاب على سبيل الذكر لا الحصر؛ حزب تحالف القوى الوطنية، حزب العدالة والبناء، حزب الجبهة الوطنية، حزب التغيير، ولكن مع دخول البلاد في نفق الصراع المسلح والحرب الأهلية منذ سنة 2014، ومع تنامي حالة الاستقطاب السياسي، فقدت هذه الأحزاب المرونة التي تمتعت بها في وقت سابق، واضطرت لإقفال مقراتها في المناطق التي يسيطر عليها خصومها، بل إن عددا من المقرات قد هوجم وأحرق وأصبح مجرد ذكرها في تلك المناطق هو خيانة لـ(دم الشهداء)، وهو ما يعيد حتى هذه الأحزاب الكبيرة لخانة الدكاكين في هذا الجانب على الأقل، ففي حالة إقامة الانتخابات؛ هل تستطيع هذه الأحزاب الدفع بمرشحين في مناطق خصومها؟ ولو فعلت فهل ستستطيع إقامة دعايات وحملات انتخابية لهم؟
نأتي لآخر معايير الدكتور دغمان؛ (الحصول على الدعم الشعبي المعتمد على أنصار ونشـطاء مناضـلين وناخبين)، لنخرج عن السياق قليلا ونذهب إلى مجال آخر وإن كان بعيدا عن الأحزاب السياسية؛ ولكن تعتمد الانتخابات فيه على مبدأ لا يبعد كثيرا عما نحاول إيضاحه هنا يشرح المعيار الأخير.
انتشر منذ سنوات طويلة في ليبيا مصطلح (أندية الشنطة) لوصف أندية رياضية موجودة على الورق فقط، أي لا وجود لها في الواقع، وإن وجدت فلا تأثير لها على الإطلاق، ويعتمد وجودها كليا على أوراق إشهارها الموجودة في حقيبة (شنطة) رئيس النادي، وهذا الأخير يتاجر بهذه الأوراق ليصوت لرئيس الاتحاد الرياضي في الانتخابات مقابل الحصول على الدعم الذي تحصل عليه الأندية الحقيقية.
ولأن معظم الأحزاب السياسية في بلادنا لا وجود لها في الواقع، وإن وجدت فلا تأثير لها على الإطلاق، فقد أصبحت بهذا المقياس (أحزاب شنطة)، وجدت ليتاجر بها مؤسس الحزب ليحصل على أكبر قدر من المنافع والمكاسب لشخصه ولمعارفه، فلا يوجد دعم شعبي لهذا الحزب على الإطلاق ولا يوجد أنصار ونشطاء آمنوا بفكره فقرروا النضال من أجله، بل لا يوجد له فكر أصلا حتى يعتمد لنشره على مناضلين وناخبين.
الأحزاب والانتخابات:-
ما هي فرصة الأحزاب السياسية في الانتخابات القادمة؟
أصدر مجلس النواب في أكتوبر من العام 2023 قانون الانتخابات الجديد الذي يفترض أن تقام الانتخابات على أساسه في منتصف العام 2024، (القانون رقم 27 لسنة 2023 م بشأن انتخاب مجلس الأمة)، ومجلس الأمة –حسب هذا القانون- هو (السلطة التشريعية للدولة، ويتكون من غرفتين هما مجلس النواب، ومجلس الشيوخ، ويمارسان اختصاصاتهما وفقاً للإعلان الدستوري وتعديلاته).
ونصت المادة 13 من القانون المذكور على أنه: (بمقتضى أحكام هذا القانون يتم انتخاب عدد 297 مائتين وسبعة وتسعين عضواً لمجلس النواب بطريق الاقتراع العام السري المباشر، بحيث يتم انتخاب عدد 152 مائة واثنان وخمسون بطريق القوائم المغلقة التي تقدمها الأحزاب بموجب نظام التمثيل النسبي في الدوائر المخصصة لذلك، وعدد 145 مائة وخمسة وأربعين على أساس الترشح الفردي وفقاً لنظام الفائز الأول. ويتم انتخاب عدد 90 تسعين عضواً بمجلس الشيوخ على أساس الترشح الفردي بنظام الفائز الأول.
ويُعتمد في ذلك كله نظام الصوت الواحد غير المتحول).
أي أن –وفقا للقانون الذي أقره مجلس النواب من جانب واحد حيث أن المجلس الأعلى للدولة مازال يتحفظ عليه- مجلس الأمة سينقسم إلى غرفتين –مجلس نواب ومجلس شيوخ- وستتمكن الأحزاب السياسية من خوض انتخابات مجلس النواب فقط فيما سيقتصر الترشح لمجلس الشيوخ على النظام الفردي فقط.
سيتكون مجلس النواب من 297 عضوا؛ وفقا للقانون سيكون 152 منهم مرشحون من قوائم الأحزاب، فيما يخصص الباقي -145- لقوائم الأفراد.
وفقا لهذا القانون يتساوى تقريبا مرشحو القوائم الحزبية مع مرشحي القوائم الفردية، وبالتالي لن يتمكن حزب أو مجموعة أحزاب من السيطرة على مجلس النواب وتوجيه سياسته باتجاه رؤيتهم الأيديولوجية، إلا عن طريق القيام بأكبر قد ممكن من التحالفات مع الأفراد الذي سيشكلون نصف أعضاء المجلس تقريبا، وسيكون مجلس النواب بذلك صورة أقل قتامة بقليل عن مجلس النواب الحالي الذي تسيطر عليه تماما المصلحية والبراغماتية المبنية على أسس قبلية وجهوية ومناطقية.
كما أن معظم الأحزاب السياسية لن تتمكن من خوض العملية الانتخابية في كل الدوائر على امتداد الوطن، بل ستقتصر مشاركتها على المناطق التي توجد بها حاضنة شعبية لها، أو المناطق التي لا تقع تحت السيطرة المباشرة لخصومها السياسيين أو الأيديولوجيين، ومع أخذ كل هذه العوامل في الاعتبار؛ إضافة إلى أن العشرات من الأحزاب هي نسخ كربونية عن بعضها البعض، ويحمل معظمها أسماء تكاد تكون متطابقة، وتدعي أنها تحمل نفس الرؤية والتوجه، وبعضها معروف بنشاطات مؤسسيه في بعض المناطق، ولكنه لا يمثل أي قيمة في مناطق أخرى، كما أن بعضها سيستمد زخما نوعيا من الشخصيات التي تدعمه في بعض المناطق، ولكن دعم نفس هذه الشخصيات للحزب سيكون عامل تنفير في مناطق أخرى؛ فإننا سنجد أنفسنا أمام محصلة شبه حتمية لنتيجة الانتخابات، مقاعد متفرقة ومتشظية للأحزاب الكبيرة في الدوائر الكبيرة، ومقاعد متناثرة هنا وهناك في الدوائر الصغيرة لأحزاب صغيرة سيمارس قادتها المتاجرة السياسية للحصول على أكثر قدر من المنافع من خلال الدخول في ائتلافات معينة أو دعم توجهات معينة داخل أروقة المجلس، وفي كل الأحوال سنجد أنفسنا أمام تجربة سياسية جديدة ولكنها مشوهة كسابقاتها، ولن تقود إلى تأسيس الدولة الحديثة التي نحلم بها، غير أننا لا نملك إلا الحلم في أن تكون التجربة القادمة وربما حتى التي تليها مجرد خطوات نخطوها في طريق الممارسة السياسية التي تصحح نفسها من خلال أخطائها حتى نصل لدولة ليبيا الحديثة التي ناضلت من أجلها الأجيال.
المصادر:
موسوعة ويكيبيديا
الجريدة الرسمية
القانون رقم (17) لسنة 1972 م بشأن تجريم الحزبية
الإعلان الدستوري المؤقت الصادر عن المجلس الوطني الانتقالي عام 2011م
القانون رقم (29) لسنة 2012 م بشأن تنظيم الأحزاب السياسية
القانون رقم 27 لسنة 2023 م بشأن انتخاب مجلس الأمة
بحث (الأحزاب السياسية .. التفاتة سوسيولوجية) للدكتور المهدي الشيباني دغمان